عملت جين غراهام كممرضة مدرسية لمدة تقارب 20 عامًا، وخلال هذه الفترة تغيرت طبيعة عملها بشكل جذري.
تقول جين “عندما بدأت، كان معظم الدعم الذي نقدمه يركز على الصحة البدنية، مثل التعامل مع حالات الربو والإصابات. أما الآن، فأصبح التركيز ينصب على الصحة العقلية”.
وقد لاحظت جين زيادة ملحوظة في عدد الأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم. وتوضح: “هذا الأمر يؤثر بشكل كبير على التلاميذ في المدارس الثانوية، لكنه يشمل أيضًا أطفالًا لا تزيد أعمارهم عن سبع سنوات”.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن واحدًا من كل خمسة أطفال وشباب، تتراوح أعمارهم بين 8 و25 عامًا في إنجلترا، يعانون حاليًا من اضطراب في الصحة العقلية. لذلك، ليس من المفاجئ أن تكافح هيئة الخدمات الصحية الوطنية لمواكبة هذا الوضع.
قدم الخبراء العديد من التفسيرات، مشيرين إلى أن جائحة كورونا، وتكاليف المعيشة المتزايدة، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، فرضت ضغوطًا إضافية على الجيل الجديد.
ولكن بعض الخبراء في مجال الصحة العقلية طرحوا تساؤلًا آخر: هل هناك حقًا أزمة في الصحة العقلية، أم أن الشباب ببساطة يفتقرون إلى القدرة على الصمود الكافي؟
نقاش مثير للجدل
هذا السؤال مثير للجدل إذ قد يفسر البعض كلمة الصمود على أنها مهينة، أو حتى سامة.
لكن أحد أبرز خبراء البلاد في مجال الطب النفسي للأطفال والمراهقين، وهو البروفيسور أندريا دانيس، من كينجز كوليدج لندن، يعتقد أن كلمة الصمود يجب أن تُؤخذ على محمل الجد.
ويضيف أنه لا ينبغي النظر إلى المشاكل العقلية تلقائيًا على أنها علامة على سوء الصحة العقلية.
ويقول: “إن مواجهة التحديات والمشاكل العقلية أمر طبيعي ومهم من حيث النمو الفردي، وهذه هي الطريقة التي يطور بها الشباب الصمود العاطفي، فهم يتعلمون مهارات التأقلم في مواجهة العديد من التحديات الصغيرة، ويبنون الثقة بالنفس بشأن قدرتهم على التأقلم”.
وتعتقد جين غراهام، ممرضة المدرسة، أيضًا أن العديد من الأطفال الذين رأتهم يعانون، وخاصة أولئك الذين يعانون من مشاكل الصحة العقلية الأقل مستوى، سوف يستفيدون من هذه الخبرة حيث سيصبحون أكثر صمودا.
وهي تعتقد أنه إذا تم تزويد الصغار بمهارات أفضل للتكيف، فمن المرجح أن يكونوا في وضع أفضل للتعامل مع التحديات التي قد يواجهونها قبل أن تتطور إلى أزمة كاملة، وهذا بدوره سيساعد في تخفيف الضغط على الخدمات الصحية للتركيز على أولئك المعرضين لخطر أكبر.
وتقول: “نحن بحاجة إلى بذل جهود أفضل بكثير في تعليم الصمود في المدارس، وكيفية الحفاظ على الصحة العقلية، لكن الطريقة التي نتعامل بها مع الأطفال، مثل الأيام الرياضية في المدارس الابتدائية حيث يتم إعلان الجميع فائزين، لا تساعد”.
في الثقافة الشعبية، برز مفهوم الصمود خلال سبعينيات القرن العشرين بعد الأبحاث التي أجرتها عالمة النفس إيمي فيرنر، التي درست الأطفال في هاواي من خلفيات ذات دخل منخفض.
ومؤخرًا، أصبح الصمود موضوعًا للعديد من الكتب الأكثر مبيعًا، من بينها كتاب “الخيار ب: مواجهة الشدائد، وبناء الصمود وإيجاد الفرح”، الذي شاركت في تأليفه شيريل ساندبرغ، الرئيسة التنفيذية السابقة للعمليات في شركة ميتا.
تشير الأبحاث التي أجراها أكاديميون في بولندا إلى أن المستويات الأعلى من الصمود تُساهم في تحسين الرضا عن الحياة، كما تعمل كحاجز وقائي ضد مشاكل الصحة العقلية بين الشباب.
مع ذلك، لا يتفق الجميع بشأن قضية الصمود أو الجوانب السلبية المحتملة لزيادة الوعي بالصحة العقلية.
تقول الدكتورة شاري ماكدايد، رئيسة السياسات والأدلة (اسكتلندا وأيرلندا الشمالية) في مؤسسة الصحة العقلية، إن الافتراض بأن زيادة الوعي مسؤولة عن ارتفاع معدلات مشاكل الصحة العقلية هو أمر “مضلل”.
وأكدت ماكدايد أن زيادة الوعي ساهمت في تحسين “محو أمية الصحة العقلية”، مما أتاح للناس أدوات فعّالة للتعرف على مشاعرهم اليومية والتعامل معها.
وأضافت: “ما نحتاج إليه هو بذل مزيد من الجهود لمنع تحول المشاكل العقلية لدى الشباب إلى اضطرابات خطيرة. يمكننا تحقيق ذلك من خلال نهج شامل يشمل المجتمع بأسره، ويعمل على خلق بيئات داعمة للصحة العقلية في المجتمعات والمدارس وأماكن العمل، إلى جانب تعزيز الصمود الشخصي لدى الشباب”.
واختتمت قائلة: “إن كلا النهجين، الوقائي والشخصي، يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب”.
من كوفيد إلى وسائل التواصل
تقول الدكتورة ماكدايد إن الجيل الحالي من الأطفال والشباب يواجه مجموعة فريدة من التحديات، مشيرة إلى أنهم كانوا صغارًا ورضعًا خلال الأزمة المالية عام 2008، وعاشوا أيضًا الانقسامات المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى جائحة كوفيد-19 خلال سنوات تكوينهم.
وقالت: “نحن نعلم أن الأحداث السلبية تراكمية، فكلما زادت شدتها، زادت احتمالية معاناتك”.
وتضيف: “كانت هناك دائمًا صور غير واقعية، لكن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الأمور أكثر تعقيدًا”.
وزعم عالم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت أن التطورات في العالم الرقمي أدت إلى “إعادة برمجة كبيرة للطفولة”، حيث يقضي الأطفال وقتًا أقل في التواصل الاجتماعي المباشر، والمزيد من الوقت ملتصقين بشاشاتهم. وفي كتابه “الجيل القلق”، يقترح أن هذا يؤثر على احترام الذات والعلاقات الشخصية، التي تعد ضرورية للصحة العقلية الجيدة.
لكن البروفيسور دانيس يقول إن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحده لا يمكن أن “يفسر بشكل كامل” سبب انتشار مشاكل الصحة العقلية على نطاق واسع.
ويرى أن هذا من المرجح أن يؤدي إلى “تضخيم” المشاكل بدلاً من التسبب فيها. ويقول: “إن أسباب ارتفاع معدلات مشاكل الصحة العقلية معقدة، ولست متأكدًا من أننا نفهمها بشكل كامل”.
وكما يقول أحد الشباب: “من منصات التواصل الاجتماعي التي تجعلنا أكثر عزلة وقلقًا، إلى خدمات الصحة العقلية التي تعاني من نقص التمويل والتي أصبحت على وشك الانهيار، وأزمة المناخ العالمية التي تعرض مستقبلنا للخطر، فلا عجب أن يكافح الشباب من أجل البقاء إيجابيين”.
“مثل وضع ضمادة على الجرح”
تبلغ أديل والتون من العمر 25 عامًا، وقد كتبت بشكل واسع عن التأثير السلبي لعصر الإنترنت على الصحة العقلية لجيلها، بما في ذلك في كتابها ” تسجيل الخروج: التكلفة البشرية لعالمنا الرقمي”.
وتقول “في حين أن الصمود الفردي قد يكون أداة فعّالة لحمايتنا من شدة التحديات التي نواجهها، ومساعدتنا على التعافي من صراعات الحياة اليومية، فإن القول إنه يمكن أن يحل المشاكل التي يواجهها الشباب اليوم يشبه وضع ضمادة على جرح مفتوح”.
بدلاً من ذلك، تعتقد أن الإجابة تكمن في معالجة الطبيعة الإدمانية والسامة لمنصات التواصل الاجتماعي، والاستثمار في المساحات المجتمعية، فضلاً عن الاستماع إلى الشباب أنفسهم.