تخيل أنك تقدمت لوظيفة الأحلام، واجتزت الجولة الأولى من المقابلات وجرى اختيارك لخوض الجولة الثانية. هل ستحتفل بما أحرزته من تقدم، أم ستبدأ في الاستعداد للتحدي الجديد؟
هل ستبدأ على الفور في تخيل فشلك في الجولة الثانية، وتخشى من تأثير ذلك على ثقتك بنفسك؟ هل ستقول لنفسك: “إذا أخفقت في ذلك .. إنني إنسان فاشل؟”
أو لربما ستنتظر أن يصلك رد على رسالة أرسلتها لأحد أصدقائك، وعندما لا يصلك رد فوري، تبدأ في تخيل كافة الطرق التي ربما كنت أسأت إليه من خلالها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار احتمال أن يكون ببساطة، مشغولاً بشيء آخر.
أو لربما تشغلك الأحداث الجيوسياسية، فتقضي ساعات طويلة كل ليلة في التفكير في التهديدات النووية، أو احتمال ظهور فيروس آخر فتاك أو حدوث ركود اقتصادي!
هناك الكثير من الأبحاث التي تشير إلى أن التهويل من الممكن أن يشكل تهديداً خطيراً على الصحة العقلية، ومن الممكن أيضاً أن يضخم الشعور بالضيق والتعاسة المصاحب لحالات مثل الألم المزمن.
ينبع فهم علماء النفس للتهويل بوصفه أحد العوامل الخطيرة، التي قد تضر بالصحة العقلية، من ابتكار ما يعرف بالعلاج السلوكي المعرفي.
كان الهدف هو كشف المخاوف والرغبات المكتومة التي تسببت في الصراع النفسي، والتي عادة ما تنتج عن أحداث تعرض لها الشخص في طفولته المبكرة، وتكون جنسية الطابع.
غير أنه بحلول منتصف القرن، بدأ معالجون نفسيون مثل ألبرت إيليس وأرون بِك، في النظر إلى طرق بديلة لمساعدة الأشخاص في التغلب على مشكلاتهم.
وبدلاً من محاولة التنقيب عن صراع نفسي خفي، بدأ هؤلاء في التركيز على عمليات التفكير الواعي لدى الأشخاص، من خلال استهداف أنماط التفكير السيئة، أو “التشوهات المعرفية” التي قد تكون هي سبب المشكلات النفسية.
وقد توصلوا منذ البداية إلى أن التهويل ربما يكون من التشوهات المعرفية المهمة، حيث كتب بِك عن دوره المحتمل في حالات الرهاب المرضي (الفوبيا). على سبيل المثال، الشخص المصاب بفوبيا الطيران ربما يفسر أي صوت خشخشة بسيطة في مقصورة الطائرة على أنه إشارة إلى وجود خلل فني.
الأبحاث المتواصلة تظهر أن التهويل أو التفكير السلبي المبالغ فيه يسهم بشكل خطير في حالات القلق المرضي. على سبيل المثال، الشخص الذي يبحث عن الكمال في كل شيء ويميل إلى توقع الأسوأ، قد يشعر بالقلق البالغ، عند ارتكاب أصغر الأخطاء في العمل.
يشرح كيلان قائلا: “ربما يفكر [ذلك الشخص] تفكيراً سلبياً مبالغاً فيه من قبيل: سوف أقال من وظيفتي، وإذا أقلت، لن أستطيع تحمل الأمر”.
وفي مرحلة ما، قد تصل مخاوف الشخص إلى حد عدم قدرته على تأدية وظيفته، أما الشخص الذي يعاني من قلق مرضي بشأن حالته الصحية، فربما يقوده التهويل إلى تشخيص ذاتي لأي تغيير طفيف في جسمه على أنه إشارة إلى إصابته بالسرطان.
وفي بعض الحالات، يبدأ الأشخاص في التهويل في الأحاسيس الجسدية المصاحبة للقلق المرضي. إذا ما كانوا متوترين بشأن القيام بمهمة ما، فإنهم على سبيل المثال يظنون أن ضربات القلب المتسارعة إشارة إلى أنهم سوف يصابون بأزمة قلبية.
وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، أظهرت الأبحاث أن التفكير التهويلي قد يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض النفسية، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الوسواس القهري، وحتى بعض أنواع الاختلالات العقلية الحادة.
بل ومن الممكن أن يؤدي التفكير التهويلي إلى مفاقمة الشعور بالألم الجسدي. في هذه الحالة، قد يتصور الشخص أن الآلام الجسدية التي يعاني منها لن تتوقف أبداً، وربما يفترض أن ألم الرأس الشديد يعني إصابته بسرطان المخ، على سبيل المثال.
تشير التجارب إلى أن هذا النوع من التفكير يضخم عملية إصدار إشارات الألم في المخ، ومن ثم يكون الشعور به أشد وطأة ويستغرق وقتاً أطول.
عدوى المشاعر
العديد من العوامل من الممكن أن تشرح لنا، لماذا يعاني البعض من التفكير التهويلي أكثر من غيرهم.
وفي بعض الأحيان، نتعلم طريقة تفكيرنا من بعض أفراد الأسرة، إذا كنت لاحظت أن أبويك دائما ما يتوقعان أسوأ نتيجة ممكنة للأحداث، ربما تنظر تلقائياً إلى المواقف الصعبة بنفس الطريقة.
كما أن الظروف التي نمر بها تلعب دوراً هي الأخرى، فالشعور المبالغ فيه بالتوتر وعدم الاطمئنان يعني أن أهون الأسباب تزج بك في دوامة من التفكير السلبي.
إذا وجدت أن أفكارك بدأت تزداد تشاؤماً وسلبية خلال العام أو العامين الماضيين، قد لا يكون ذلك من قبيل الصدفة: فهناك دليل على أن الأحداث العالمية التي تنقلها الأخبار ربما يكون لها يد في ذلك.
أحياناً، قد تبدأ في التهويل من العواقب المحتملة للأحداث نفسها – مثل الحرب في أوكرانيا أو ظهور متحور جديد لكوفيد-19، أو انهيار الاقتصاد.
وأحياناً، قد يكون الرابط أقل وضوحاً، حيث تؤدي الأخبار السلبية إلى زيادة المستوى العام للتوتر، الذي قد يؤدي بدوره إلى شعورك بالقلق إزاء مشكلاتك الشخصية، حتى عندما تبدو منفصلة تماماً عن المحتوى الجيوسياسي.
وأجرت جامعة ويست ساسيكس بالمملكة المتحدة تجربة، طلبت خلالها من 30 شخصاً تصنيف عدد متنوع من التقارير الإخبارية التلفزيونية وفق السمات العاطفية، ما إذا كان الخبر سلبياً أم إيجابياً، مبهجاً أم مزعجاً، يبعث على الهدوء أم الإثارة، ثم عرضت عليهم طائفة من الأنباء المصورة.
كما كان متوقعاً، المشاركون الذين شاهدوا التقارير السلبية كانوا أكثر توتراً بعد مشاهدتها – بل وكانوا أكثر ميلاً للتفكير التهويلي عند مناقشة مشكلاتهم الشخصية، مقارنة بهؤلاء الذين شاهدوا تقارير محايدة أو إيجابية.
الدراسة صغيرة نسبية. لكن المزيد من التجارب تؤكد أن استهلاك الأخبار له تأثير يستمر لفترة طويلة على مزاجنا، ومن ثم، قد يضعنا في مسار تخيم عليه الأفكار السوداوية.
كسر الدائرة
ومهما كان مصدر التفكير التهويلي، يقول المختصون في العلاج السلوكي المعرفي مثل كيلان إنه من الممكن كسر دوائر الأفكار السلبية.
إذا كانت الفكرة التالية التي ستخطر على بالك هي “سوف أفشل”، فلتتساءل على أي أساس بنيت ذلك الافتراض؟ ما الأسباب التي تدفعك إلى اعتقاد أنك ستفشل بشكل تلقائي؟ وما التفسيرات الأخرى التي يمكن أن تعطيها للموقف بناء على المعطيات المتاحة لك؟
إذا حاولت تبني وجهة نظر مراقب موضوعي، قد تدرك أن الفشل هو فقط أحد الاحتمالات ولكنه ليس أمراً مؤكداً – وأن هناك خطوات عملية باستطاعتك أن تتخذها لتحسين فرصك في تقديم أفضل أداء ممكن.
ينبغي أن تكون واعياً بالتعميمات والمبالغات الشديدة، التي تضر أكثر مما تنفع – أفكار من قبيل “أنا إنسان فاشل ولن أحصل على وظيفة”. في هذا السيناريو، قد يكون من المفيد أن تدرك حقيقة أن الجميع يمرون من حين إلى آخر بتجارب سيئة، فيما يتعلق بمقابلات العمل – وهذا لا يعني أنهم جميعاً فاشلون ميؤوس منهم.
وإذا حدث وفشلت، تستطيع أن تتعلم من هذه التجربة وتحسن أداءك في المقابلة التالية.
مثال آخر: تخيل أنك تشعر بقلق شديد من احتمال إصابتك بفيروس كوفيد-19، وأن هذا القلق يسيطر على أفكارك. بينما من المنطقي التفكير في خطورة العدوى، قد تقفز سريعاً إلى استنتاج أنك مصاب به في كل مرة تشعر بدغدغة بسيطة في حلقك، ثم يصيبك الهلع من احتمال عدم قدرتك على التكيف إذا مرضت.