توصف الوحدة بأنها تهديد مُدمر للصحة، لدرجة أنها تُعادل تدخين 15 سيجارة يومياً.
ولكن في الوقت نفسه، يشكّل التواصل المستمر والكثيف إرهاقاً للبعض منا، إذ لم نكن يوماً متقاربين من بعضنا البعض بالقدر الذي نحن عليه اليوم، حيث نتلقى مئات الرسائل يومياً عبر هواتفنا الذكية، ما يدفع الكثيرين للبحث عن الهدوء.
فهل من الممكن إذاً إيجاد هذا التوازن؟ سألت بي بي سي خبراء الصحة عن رأيهم.
هل هناك فرق بين العزلة والوحدة؟
كيف يؤثر الشعور بالوحدة على جسدك؟
تقول ويغفيلد إن هناك أدلة متزايدة على أن الوحدة يمكن أن تؤدي إلى الخرف والاكتئاب والقلق وزيادة خطر الوفاة بشكل عام.
لم يتضح بعد السبب وراء هذا التأثير للوحدة على الصحة الجسدية، يعتقد الأطباء أن الرابط قد يعود إلى زيادة الشعور بالضغط والتوتر ونقص التحفيز المعرفي نتيجة الانعزال، ما يؤدي بدوره إلى تفاقم مشاكل الصحة النفسية.
تُقدر منظمة الصحة العالمية أن من كل أربعة مسنين هناك شخص واحد يعاني من عزلة اجتماعية، بينما يواجه ما بين 5 إلى 15% من المراهقين مشاعر الوحدة.
وبعيدًا عن العمر، توجد أيضاً مجموعات معينة معرضة لخطر متزايد من الشعور بالوحدة أكثر من غيرها، مثل المهاجرين، والأقليات العرقية، وطالبي اللجوء، والأشخاص من مجتمع الميم، والمسؤولين عن رعاية المرضى والمعاقين، والأشخاص الذين يعانون من ظروف صحية أخرى.
كيف يمكنك التغلب على الوحدة؟
في السنوات الأخيرة، أطلقت حكومات عديدة مبادرات للتصدي لوباء الوحدة، الذي أصبح أحد أبرز القضايا التي يتم إدراجها على جداول الأعمال السياسية للحكومات، في ظل ارتفاع تكاليف الخدمات الصحية، والضمان الاجتماعي، والاقتصاد بشكل عام.
تُظهر الأبحاث أن التطوع يُمكن أن يكون استراتيجية وقائية فعالة، ففي هونغ كونغ، أكدت تجربة أجريت على 375 متطوعاً مجتمعياً أن استغلال أوقات الفراغ من أجل قضية تؤمن بها يُمكن أن يُخفف من الشعور بالوحدة، وخاصة لدى كبار السن.
في الوقت نفسه، تتبع أستراليا وهولندا نهجاً مختلفاً، حيث تستثمران بدلاً من ذلك في مبادرة للعيش المشترك بين الأجيال، إذ يتم تشجيع الأجيال الأكبر سناً والأصغر سناً على قضاء الوقت معاً في أماكن مشتركة مثل المراكز المجتمعية أو المجمعات السكنية ذات الساحات المشتركة.
ويشرح هولان ليانغ، طبيب نفس الأطفال والمراهقين، أن الحل الأمثل يكمن في بناء مجتمعات متسامحة ومتعاونة، يشعر الأفراد فيها بمكانتهم، ويحلمون بأهدافٍ يسعون لتحقيقها.
يقول ليانغ، مؤلف كتاب “الشعور بالانتماء”: “إن الاطمئنان على الآخرين، وتعزيز اللطف والتعاون بين الناس يُساعد على الوقاية من الوحدة”.
أما على المستوى الفردي، فإن تحقيق الرضا الذاتي، وتحسين جودة علاقاتنا بأصدقائنا تساعد في الابتعاد عن الوحدة، وفق ما يقوله خبراء لبي بي سي، محذرين من أن علامات مثل الشعور المستمر بالحزن وقلة الرغبة في الاختلاط بالآخرين أو مغادرة المنزل، قد تشكل مؤشراً على بداية شعورنا بالوحدة.
هل للعزلة وصمة عار؟
تؤكد البروفيسورة نغوين أن البشر، ككائنات اجتماعية، يعتمدون على شبكة اجتماعية متماسكة تلتزم بقواعد معينة للبقاء.
أظهرت دراسة أجرتها جامعة ريدينغ في المملكة المتحدة أن لحظات العزلة يمكن أن تجلب فوائد على الصحة النفسية. تابع الباحثون 178 شخصاً بالغاً لمدة تصل إلى 21 يوما، خلال هذه الفترة، كان على المشاركين ملء مذكرات واستبيانات لقياس مستوى توترهم، ورضاهم عن الحياة، واستقلاليتهم، وشعورهم بالوحدة.
كشفت التجربة أن قضاء ساعات أطول بمفردهم جعلهم يشعرون بانخفاض التوتر، وحرية الاختيار، والتصرف على سجيتهم، وهو ما يشير، وفقاً للباحثين، إلى أثر العزلة “كمهدئ”.
لكنهم أيضاً، أفادوا بأنه تملكتهم مشاعر بأنهم وحيدين وانخفضت نسب الرضا عن أنفسهم.
كيف تجد لحظات ذات معنى لنفسك؟
تشير الأدلة إلى أن العزلة توفر مساحة لتنظيم المشاعر، وشعوراً بالحرية والاستقلالية، لذا، يمكن أن تكون أداة مفيدة بشكل خاص في المواقف التي نتعرض فيها لضغط نفسي أكبر، أو في يوم معين نشعر فيه بازدحام الحياة.
توصي البروفيسورة نغوين بجعل قضاء الوقت بمفردك “عادة” منتظمة، وذلك من خلال جدولة وقت يمكنك الاستمتاع به بعيداً عن الشاشات وسائل التواصل.
وقالت”عندما يسألني الناس عن كيفية الاستفادة من العزلة، فإنني أنصح دائماً بالبدء بخطوات صغيرة، بـ 15 دقيقة فقط يوميًا”.
خلال هذه الفترة القصيرة، يمكنك تتبع مشاعرك، وما الذي تحب القيام به، ومع مرور الأيام، قم توسيع نطاق هذا الوقت من العزلة، تدريجياً.
وأضافت “أحياناً، يرغب الناس في بدء فترة نقاهة وتقليل وقت استخدامهم للشاشات أو وسائل التواصل الاجتماعي لأيام، قد يُسبب هذا شعوراً بعدم الراحة، وقد لا يرغبون في تجربته مجدداً في المستقبل”.
كشفت بيانات جامعة ريدينغ أن الناس كانوا أكثر وحدة وأقل رضا في الأيام التي قضوا فيها ساعات أطول في عزلة، وحتى عندما كانت العزلة اختيارية، لم تقل هذه المشاعر، لأنها أصبحت تتراكم على مدار عدة أيام، لذا فإن التوازن المثالي لا يمكن قياسه بالساعات، تقول نغوين، إنما من حيث جودة الأشياء التي نفعلها في هذا الوقت.
تُشير إلى أن بعض الأبحاث تُظهر أن الشعور بالوحدة يبدأ عندما نكون بمفردنا لمدة 75٪ من ساعات يقظتنا.
وتعتقد أن “هذا يعتمد في الواقع على مستوى كل فرد وماذا يفعل خلال هذه الدقائق من الانقطاع عن العالم؟
يقترح الخبراء إيجاد أنشطة مُحفزة تُوفر أيضاً الراحة والاسترخاء. هناك العديد من الهوايات والأنشطة المشتركة التي تتوافق مع العزلة، مثل القراءة، والبستنة، والمشي في الطبيعة، والاستماع إلى الموسيقى، والطبخ، والحرف اليدوية.