في مارس/آذار 2020، كان مليارات البشر يرقبون من وراء النوافذ عالماً لم يعُد هو ذلك العالم الذي عهدوه من قبل.
كان وباء كورونا قد حبسهم في بيوتهم، فانكمشت عوالمهم فجأة، ولم تعُد غير أربعة جدران وشاشات كمبيوتر.
وعلى شاشات التلفاز، كان القادة في كل مكان من العالم يطلبون من الناس البقاء في بيوتهم وعدم مغادرتها إلا لشراء المؤن الضرورية للحياة، أو ربما لعمل تمارين رياضية مرة واحدة في اليوم.
لقد كانت الإغلاقات بمثابة آخر الدواء في محاولة التصدي لتفشي الفيروس المرعب الذي قتل بالفعل الآلاف من البشر حول العالم.
ولم يسبق أبداً للبشرية في تاريخها المكتوب أن شهد العالم قيودا بهذا الحجم.
“استراتيجية السويد”
في السويد، مدينة تُدعى غوتنبرغ، وفيها يعيش كثيرون من محبّي اقتناء الكلاب، “لدينا مدينة هي ملاذ محبّب جدا للكلاب. بل ولدينا سينما ترحّب بالكلاب”، بحسب المدوِّنة أنّا مكمانوس.
وكانت دول العالم، بما في ذلك الدول المجاورة للسويد، كالنرويج وفنلندا والدنمارك قد شرعت في فرْض إغلاقات في مارس/آذار، لكن أنّا مكمانوس كانت تعرف أن حكومة بلادها ستسبح ضد التيار.
وكانت أنّا قد سمعت أن الذين يقتنون كلاباً في دول عديدة لم يعودوا قادرين على اصطحاب هذه الحيوانات في نزهة خارج المنزل بسبب قيود الإغلاق.
وكان مثل هذا الواقع مرعباً بالنسبة لأنّا مكمانوس، التي كتبت في مدوّنتها تقول: “لديّ قناعة بأن حكومة بلادي تتصرف بطريقة صحيحة وآمنة”.
وتتذكر أنّا مكمانوس كيف كانت تتردد في تلك الأثناء على مراكز للتجميل في مدينة غوتنبرغ، ولكنها إذْ ذاك تتذكر أيضاً كيف أنها وصديقاتها كُنّ ترتدين كمامات في محاولة لمنع انتقال العدوى في مركز للعلاج البيطري حيث كانت تعمل مكمانوس في عام 2020.
أيضاً كانت أنّا مكمانوس تُحاذر هي وأصدقائها من التجمّع بأعداد كبيرة في المطاعم.
ولكنْ، لحدّ الآن، تقول أنّا إنها لا تعلم على وجه اليقين هل كانت استراتيجية الحكومة السويدية إزاء الفيروس هي الاستراتيجية الأنسب؟ متسائلة: “أريد أن أبني حُكمي على أساس من الحقائق – مثلا، كم عدد الوفيات جرّاء الإصابة بكوفيد؟ وهل كان ممكنا أن ننقذ أرواح الكثير من الناس إذا نحن قرّرنا الإغلاق؟”.
ويحاول العلماء أن يضعوا إجابة لسؤال أنّا مكمانوس. ومن المعهد النرويجي للصحة العامة، نشرت الباحثة إنجيبورغ فورثون -بالاشتراك مع باحثين من دول أخرى بينها السويد- دراسة في مايو/أيار 2024، تعقد مقارنة بين أعداد الوفيات في السويد، والنرويج، والدنمارك وفنلندا خلال السنوات الأولى من الوباء.
وبينما تجنّبت السلطات السويدية فرْض إغلاقات، معتمدة بدلاً من ذلك على تغيّرات سلوكية طوعية من قِبل المواطنين، قامت الدول الثلاث الأخرى (النرويج، والدنمارك وفنلندا) بفرض إغلاقات حازمة منذ المراحل المبكرة من الوباء.
وبالمقارنة بين السويد من ناحية وهذه الدول الثلاث من ناحية أخرى، وجد الباحثون أن أعداد الوفيات وإنْ كانت قد سجّلت ارتفاعا في السويد إبان الموجات الأولى من الوباء في فصلَي الربيع والشتاء من عام 2020، إلا أن هذه الأعداد بدأت تنخفض في السويد مقارنة بالدول الثلاث الأخرى في العامين التاليين: 2021 و2022.
وقام باحثون اقتصاديون بعقد مقارنة بين الدول الأربع ذاتها على صعيد مؤشرات الأداء الاقتصادي، فوجدوا أن استراتيجية السويد كانت مبررَّة في ضوء التكلفة الاقتصادية المنخفضة نسبيا.
وحتى الآن، لا يزال قرار عدم الإغلاق في السويد إبان تفشّي كورونا، من حيث صوابيّته من عدمها، مثار جدل بين كثيرين.
تقول نيلي: “أنا طبيبة، وما يعنيني هو حياة الناس. نريد أن ننقذ كل روح”، منوّهة إلى أن عدداً من السويديين لا يزالون ينكرون وجود كوفيد-19 من الأساس.
وتتذكر نيلي، التي عاشت في السويد في عام 2020، كيف أن منشوراتها عن كوفيد-19 عبر منصات التواصل الاجتماعي كانت تثير تعليقات غاضبة من أشخاص لا يتفقون معها في الرأي بخصوص الإغلاق باعتباره استراتيجية مناسبة.
وحتى يومنا هذا، يجد البعض صعوبة في تجاوز الكراهية التي واجهها بسبب جدال حول الإغلاقات في زمن الوباء.
تنزانيا، على سبيل المثال، لم تفرض يوماً إغلاقات بسبب كوفيد-19. الرئيس التنزاني السابق جون ماغوفولي، رفض الإغلاقات أو غيرها من التدخلات الحكومية، وقد مات في 2021.
وكان تعاطي ماغوفولي مع الوباء “غير علمي”، بحسب ما يقول أستاذ التاريخ بجامعة موروغورو في تنزانيا، فاضيلي متاني.
يقول متاني إن ماغوفولي: “دافع عن التداوي بالأعشاب التقليدية، ثم رفض اللقاحات فيما بعد”.
ويتذكر متاني أنه في أثناء زياراته لأقارب له في المستشفى حيث توفّي بعضهم متأثرين بعدوى كوفيد-19، كيف كان “الناس يُسعلون في المستشفى، وكيف كان الأطباء يقولون إنهم لا يستطيعون القول إن هذا كوفيد-19”.
وتشير إحصاءات رسمية إلى أن نحو 840 شخصا توفوا متأثرين بالإصابة بكوفيد-19 في تنزانيا منذ بدء الوباء.
ويعتقد متاني، أستاذ التاريخ بجامعة موروغو في تنزانيا، أن حكومة البلاد كان يجب أن تفرض إغلاقاً، حتى مع عدم فرض قيود مشددة على حركة العُمال؛ “ذلك أن معظم الشعب التنزاني فقير، ومن ثمّ فإن فرْض قيود على الحركة تعني المخاطرة بالبقاء على قيد الحياة”، على حد تعبير متاني.
“ضرورية لإنقاذ حياة الناس”
ويؤكد باحثون عديدون أن الإغلاقات كانت تدابير ضرورية لإنقاذ حياة الناس في المرحلة الأولى من الوباء، قبل توفّر اللقاحات، فضلاً عن أثرها في تخفيف الضغط على الخدمات الصحية.
وكشفت الدراسة أن صور التدخلات الحكومية كانت متفاوتة الأثر على انتقال عدوى كوفيد.
ومن ذلك، على سبيل المثال، أنّ تدابير مثل حظْر تجمُّع أكثر من عشرة أشخاص أو إغلاق المدارس والجامعات كانت فعّالة في خفض انتقال العدوى بأكثر من 35% في المتوسط. بينما كان تدبير مثل إغلاق المطاعم والحانات أقل فعالية في نقل العدوى.
وأشارت الدراسة إلى أن أوامر البقاء في المنازل، على رأس تدابير الإغلاق، لم تكن ذات فعالية كبيرة على صعيد خفض وتيرة انتشار كوفيد-19؛ فلم تُسهم في ذلك سوى بنسبة أقل من 17.5 بالمئة في المتوسط.
“مقارنات مدهشة”
وثمة مقارنات مدهشة إذا ما عُقدت على صعيد تعاطي الدول مع فيروس كورونا.
ولنأخذ على سبيل المثال، أيسلندا ونيوزيلندا؛ فكل من الدولتين جزيرة وغنية وذات تعداد سكانيّ صغير. ومع ذلك فإن تعاطيهما مع الفيروس كان مختلفا.