انطلقت ملكة جمال لبنان ندى كوسا إلى المكسيك، اليوم، للمشاركة في مسابقة اختيار “ملكة جمال الكون”. كادت أن تلغي رحلتها في اللحظة الأخيرة. ليس بسبب خطر يحيط بمطار بيروت في أوج الحرب، بل بفعل خطأ وقع به المنظّمون، ثمّ اعتذروا عنه.
قبل أيام، زرتُها لأسألها سؤالاً يطرحه كثيرون: لماذا قرّرت المشاركة في مسابقة جمال دولية، في وقت يعيش بلدها حرباً قد تغيّر تاريخه؟
بالنسبة لندى، وهي معالجة نفسية منخرطة منذ بداية الحرب في جهود مساندة النازحين، وتقديم الدعم النفسي لتلاميذ المدارس والعائلات، فالإجابة واضحة “هذه المشاركة أشبه بالتحدّي”. لماذا؟ “لأنني أريد أن أرفع صوت لبنان، ولأن الظروف الحالية خلقت لديّ دافعاً للمواصلة. سأقول للعالم إن ما نعيشه حالياً ظلمٌ، ولا يجب أن يختبره أي إنسان أو أي بلد. هناك دمار شامل في وطننا، ويجب أن يتوقّف”، تردّ ابنة الـ26 عاماً.
كنا نستعدّ لتسجيل المقابلة مع بي بي سي عربي في منزلها، حين سمعنا ما بدا لنا صوت غارة. أسرعت ندى إلى الشرفة تسأل والدها عن وجهة الصوت، وصرنا نترقّب وصول الخبر العاجل على هواتفنا، ونتكهّن بمكان الضربة.
“ندى في الحقيقة أجمل من الصور”، كتبتُ على مجموعة العائلة على واتساب. كانت ترتدي طقماً نبيذياً غامقاً، تمنيتُ أن أجد مثله على قياسي. كدتُ أنسى أننا في حرب. القصف ردّنا إلى الواقع.
تُحدّثني ندى عن التحضيرات، وعن تدريباتها على أصول المشي على المسرح، والخطابة، وعن الزيّ الوطني الذي تبدو متشوّقة للإفراج عن صوره حين يحين الوقت المناسب.
حين فازت ندى بلقب ملكة جمال لبنان في يوليو/ تمّوز الماضي، عمّت الاحتفالات قريتها والقرى المجاورة، واستقبلها الناس هناك بنثر الورود وقرع الطبول وعزف المزامير، وحملوها على الأكتاف، وفُتحت لها صالات الكنائس.
لم يسبق لشابة من المنطقة الشمالية النائية، أن فازت بالتاج، لذلك شعر الناس أنّها أدخلت الفرح إلى قلوبهم. قبل أيام، عادت إلى قريتها من جديد، لكن هذه المرّة للمساهمة في جهود طهو الوجبات للنازحين بفعل الحرب.
تقول: “الألم كبير جداً عند النازحين، وعند كل لبناني يرى بلده وأهله في ظروف مماثلة. ما نختبره حالياً يولّد الكثير من الصدمات، والمشاكل النفسية على المدى الطويل، لذلك شعرت أنه من واجبي أن أكون على الأرض”.
وتتابع: “هناك من خسر أحباء له، وهناك من خسروا بيوتهم، وهناك من خسروا الحياة التي بنوها، وهذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق. كل ما نعيشه صعب، ونحتاج إلى وقت كي نتخطاه. الناس متعبون، ولكنّي لاحظتُ أنه رغم التعب، لا يزال هناك قوّة في داخلهم”.
خلال الأسابيع الماضية، حوّلت ندى كوسا حسابها على إنستغرام إلى صفحة توعية حول الصحّة النفسية خلال الحرب، وكرّست الكثير من وقتها لإجراء مداخلات في المدارس ومراكز الإيواء، ولتقديم المساندة النفسية. تقول: “الحاجات الأساسية ليست فقط المأوى والغذاء، بل الاعتناء بالصحة النفسية أيضاً حاجة أساسيّة”.
ولكن كيف يمكن لأشخاص خسروا كلّ شيء، ويعيشون تحت أصوات القصف، وعلى وقع مشاهد الدمار، أن يعتنوا بصحتهم النفسية؟ تقول ندى: “صحيح سيكون ذلك صعباً في ظروفنا الحالية، ولكن مهما كان، علينا أن نحاول التعبير عن أنفسنا، وألا نكبت مشاعرنا، وألا ننعزل، فكلنا بحاجة للكلام والتعبير، سواء تحدثنا إلى أصدقائنا، أو حتى كتبنا على ورقة. كل إنسان بحاجة للتعبير، لنأخذ الأطفال مثلاً، ستجدينهم يعبرون عن أنفسهم باللعب، والرسم، وحتى بالصراخ، ونحن كراشدين بحاجة إلى ذلك أيضاً”.
بالفعل، يشعر لبنانيون كثر برغبة في الصراخ. خلال الأسابيع الماضية، تحوّل أسوأ السيناريوهات إلى واقع، وتوسّعت رقعة الحرب، بعد عام تقريباً على التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وفي أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت إسرائيل أنها بدأت بعمليات عسكرية “محدودة وموضعية ومحددة الهدف في جنوب لبنان تستهدف بنى تحتية عائدة إلى حزب الله”.
أكثر من 2822 لبنانياً قتلوا وجرح أكثر من 12,937 شخصاً، خلال العام الفائت، بحسب أحدث الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة اللبنانية. نزح أكثر من 1.2 مليون شخص، بعضهم يبيتون في العراء. عبر الهواتف، يتناقل أهل القرى الحدودية صور دمار منازلهم.
يخيّل لكثيرين أن الاحتفال بالحياة على وقع الحروب والتفجيرات والعنف، علامة على “الصمود اللبناني” الأثير؛ لكنّ هذا الصمود بأشكاله ومعانيه المختلفة، ليس سوى موضوع جدليّ آخر على لائحة الخلافات الكثيرة بين اللبنانيين.
يرى البعض أن مسابقات الجمال وأنشطة السياحة والترفيه، مجرد واجهة جميلة تفصل الناس عن واقعهم الكابوسي، وسط الانهيارات المالية، والنزاعات المسلحة، وترتفع فيه نسب الفقر والفوارق الطبقية.
في كلتا الحالتين، قد يكون الحديث عن أهمية الصمود، في السياق اللبناني، قد أصبح مجرد كليشيه يُستعاد عند كلّ مصيبة.
من جهتها، تقول ندى: “الصمود سيف ذو حدين، فمن جهة، يدلّ على أننا نبقى قادرين أي شيء قد يحصل لنا، وذلك أمر جميل جداً. ولكن في المقابل، الصمود قد يعني أن نفرط في تأقلمنا مع الواقع، ونتوقّف عن بذهل أي جهد لتحسينه، وذلك ما نسميه في علم النفس “الاستسلام المكتسب”، وذلك مؤذٍ على المدى البعيد”.
كلمة “شريطة” أضحكت ندى ووالدتها الجالسة قبالتنا، تنصت لكلّ كلمة من كلمات ابنتها، وتساندها. لم أعرف كيف أصلح الموقف، ربما كان سؤالي بحدّ ذاته تنميطيّاً؟ لكن ندى تجيب: “هذه الصورة النمطية لا تزعجني، على العكس، بل تعطيني دافعاً لأثبت أنه سواء كنا جميلات أو لم نكن جميلات، ما المشكلة؟ نحن قادرات على التغيير، وقادرات على تقديم المساعدة، وقادرات على استخدام خبرتنا ومجال تخصصنا في صنع تأثير إيجابي”.
ربما تشعر ندى كوسا أن فوزها بلقب ملكة جمال لبنان في هذا الظرف القاهر، حمّلها مسؤولية من نوع خاص، لتبادر، وتكون بجانب الناس، وتجد في هذا الفوز فرصة لتصنع فرقاً.
فخلال أشهر قليلة، تغيّرت حياتها من شابة انتسبت لنقابة النفسانيين في لبنان، تستعدّ لتثبيت أقدامها في مهنة العلاج النفسي التي اختارتها، إلى ملكة جمال، ووجه معروف، يمثّل لبنان في محافل دولية، ويستوقفها الناس في الأماكن العامة لالتقاط الصور معها. هل يتعبها ذلك؟ “هناك مسؤولية، ولكن محبة الناس حلوة، والناس قريبة، وذلك يفرحني”.