تمطرنا وسائل الإعلام ومنصات التواصل الإعلامي طوال الوقت بوابل من المعلومات الغذائية عما يعد طعاما صحيا أو غير صحي، وتخرج علينا بنوع تلو الآخر من أنواع الحمية الغذائية التي تستند إلى دراسات بعضها يناقض البعض الآخر.
وقد أصبح معرفة ما ينبغي وما لا ينبغي أن نأكل أمرا محيرا لكثيرين، ولا سيما لأولئك الذين يسعون إلى تغيير نمط حياتهم وغذائهم لتحسين صحتهم أو فقدان بعض من وزنهم.
ومن بين أكثر هذه النصائح شيوعا في الوقت الحالي: اتباع نظام الصيام المتقطع، وتقليل السعرات الحرارية والكربوهيدرات، ومنع أو تقليل الأطعمة التي تحتوي على الغلوتين أو السكر المكرر.
لكن وسط هذا السيل من الإرشادات والحميات المختلفة، يبرز نهج مختلف يحثنا على رفض كل القيود الغذائية والحميات والتركيز على إقامة علاقة صحية مع الطعام.
مفهوم “الأكل الحدسي” من ابتكار خبيرتي الغذاء والتغذية المعتمدتين إيفيلين تريبولي وإليس رِش اللتين وضعتا 10 مبادئ له ضمن كتابهما Intuitive Eating: A Revolutionary Program That Works الصادر عام 1995.
يبدو لي أن هذا المنهج يفترض ضمنيا أننا نفتقد إلى الحدس أو الفطرة السليمة عندما يتعلق الأمر بتناول الطعام- بعبارة أخرى، لا نعرف متى نأكل ومتى ينبغي أن نتوقف. فما الذي يجعل علاقتنا بالأكل على هذه الشاكلة؟ طرحتُ السؤال على إليس رِش إحدى مبتكرتي مفهوم الأكل الحدسي.
ما هي فوائد الأكل الحدسي؟
أشار تحليل تلوي (إحصاء يجمع بين نتائج دراسات متعددة) أجري في عام 2021 إلى أن الأكل الحدسي يساعد على زيادة الشعور بالراحة النفسية والثقة بالنفس وتحسين صورة الجسد.
ويرى خبراء أن ذلك ربما يعود إلى أن الأشخاص لا ترهقهم مشاعر التوتر والقلق المصاحبة للتفكير فيما ينبغي أو لا ينبغي أن نأكل، ما يتيح لهم تكريس مزيد من الوقت والطاقة لممارسة هواياتهم المفضلة، أو إدراك الأسباب الحقيقية التي تجعلهم يسرفون في الأكل، مثل شعورهم بالتعاسة وعدم الرضا عن علاقاتهم الشخصية أو وظائفهم، على سبيل المثال.
هل الأكل الحدسي مناسب للجميع؟
من التساؤلات التي تبادرت إلى ذهني بشأن الأكل الحدسي: ماذا عن الأشخاص المصابين بحالات صحية مثل ارتفاع ضغط الدم أو مرض السكري، وماذا عمن يعانون من اضطرابات الأكل؟ كيف يمكن أن يأكل هؤلاء ما يروق لهم، وبأي كمية؟
أما الدكتورة ويتني لينسينماير الأستاذة المساعدة المتخصصة في علوم التغذية بجامعة سانت لويس الأمريكية، والمتحدثة باسم أكاديمية علوم الغذاء والتغذية، فتقول إنه ليس هناك “مقاس واحد يناسب الجميع” عند الحديث عن الأكل الصحي بشكل عام.
وتضيف أن “الأكل الحدسي قد يناسب كثيرا من الأشخاص، ولا سيما هؤلاء الذين أصابهم الكلل وضاقوا ذرعا بتجريب الحميات التقليدية أو الحميات البدعة. لكن البعض الآخر ربما يكون بحاجة إلى اتباع نظام غذائي بإشراف طبي إذا كان يعاني من حالة مرضية مثل النوع الثاني من مرض السكري. ولكن تبقى هناك بعض عناصر الأكل الحدسي، مثل التفات الشخص إلى الإشارات الداخلية للجوع والشبع، التي يمكن لأي شخص ممارستها”.
ماذا عن احتياجاتنا الغذائية؟
تقول رِش إن “التغذية المعتدلة” من مبادئ الأكل الحدسي، وتشمل التركيز على التنوع والتوازن والاكتفاء عند اختيار ما نأكل، ومن ثم فإن الاحتياجات الغذائية مأخوذة بعين الاعتبار في هذا المنهج.
لكنها تلفت إلى أنها آخر مبادئ الأكل الحدسي، وإلى أنه من المهم “اتباع المبادئ التسعة الأخرى قبل أن يكون الشخص مستعدا للتفكير فيها، لأنه إذا تم التركيز عليها في وقت مبكر أكثر مما ينبغي، فإنه “من الممكن أن تترسخ المعتقدات القديمة بأن هناك “أطعمة جيدة” مقابل “أطعمة سيئة”، و”أطعمة صحية” مقابل “أطعمة غير صحية”.. ينبغي أن يكون شعورنا تجاه أنفسنا واحدا بغض النظر عن اختياراتنا للطعام”.
يشير مقال منشور على موقع كلية تي.إتش. تشان للصحة العامة التابعة لجامعة هارفارد الأمريكية إلى أن الأكل الحدسي لا يعالج مفهوم إدمان الطعام الذي تتسبب فيه الأطعمة فائقة المعالجة، وقد يؤدي إلى زيادة الوزن ويكون له تأثير سلبي على الصحة لأن بعض الأشخاص قد ينتهي بهم الأمر إلى استهلاك كميات كبيرة من تلك الأطعمة منخفضة القيمة الغذائية والتي تحتوي على كميات كبيرة من السكر والملح والدهون غير الصحية.
تقول الدكتورة لينسينماير إن ذلك “يتوقف على نوعية الطعام المتاحة للشخص، والأطعمة الموجودة في منزله وبيئة عمله. صحيح أن كثيرا من الأطعمة فائقة المعالجة مصممة بشكل يجعلنا نشتهيها طوال الوقت- هذا الخليط المثالي للحلو والمالح، أو ذاك الصوت المحبب الناتج عن طحن الأسنان للطعام. وإذا كان الشخص ليست أمامه سوى الأطعمة فائقة المعالجة، إذن لن يكون أسلوب الأكل الحدسي مفيدا له بشكل كبير. لكن إذا أتيح للشخص طعام طازج ذو قيمة غذائية عالية، فإن الأكل الحدسي من الممكن أن يعود عليه بالفائدة”.
ومن الانتقادات الأخرى الموجهة لمفهوم الأكل الحدسي هو أنه لا يعالج مثيرات الشهية التي تجعلنا نتناول الطعام رغم عدم شعورنا بالجوع- مثل: محفزات الحواس كرائحة الطعام أو شكله، أو مشاعر كالحزن أو التوتر أو الملل، أو بعض العوامل الاجتماعية مثل: الجلوس مع الأسرة لتناول وجبات في أوقات ثابتة.
تقول لينسينماير إن الأكل الحدسي يركز على التوعية بتلك الإشارات وعدم تجاهلها: “لا بأس من رؤية كعكة شهية أو شم رائحتها، ثم الاستمتاع بأكلها من دون الشعور بالذنب. لكن في الوقت ذاته، زيادة الوعي بما يجعلنا نتناول الطعام ستمكننا من اتخاذ قرارات واعية بدلا من التصرف بشكل لاشعوري”.
هناك حديث كثير عن الأكل الحدسي على مواقع التواصل الاجتماعي، ما بين من ينتقدونه لأنهم يرفضون مبدأ أن نأكل ما نريد وقتما نريد، وبين من شعر بالإحباط لأن وزنه لم ينقص بعد تجريبه، وبين من يمدحه ويعطي نصائح حول كيفية اتباعه.
تقول رِش إن هناك “قدرا كبيرا من التشويه الذي يتعرض له المفهوم على منصات التواصل وغيرها. الأكل الحدسي ليس حمية “الجوع والشبع”، ولا يعني تناول ما نشتهيه من دون الالتفات إلى ما يشعر به الجسم. إنه لا يتعلق بفقدان الوزن، بل يركز على الحكمة الداخلية التي تتلخص في تناول الطعام المصحوب بشعور بالرضا عن اختيارات الشخص الغذائية”.
تقول رِش إنه “من المفيد دائما العمل مع متخصص في الأكل الحدسي، إذا كان ذلك في المتناول، وإن لم يكن، من الضروري قراءة الطبعة الرابعة لكتاب الأكل الحدسي”، كما تنصح باتباع حسابات المختصين على وسائل التواصل لأن الاعتماد على المؤثرين “قد يكون مضللا”، على حد قولها.
الخلاصة هي أن الأكل الحدسي، وفق كثير من الدراسات، من الممكن أن يؤدي إلى تحسين الصحة النفسية وزيادة الاستمتاع بالطعام وشعورنا بالرضا عن أجسامنا. كما أن استخدام استراتيجيات الأكل الحدسي من الممكن أن تجعلنا أكثر وعيا بإحساسنا بالجوع والامتلاء، ولكيفية شعورنا بعد تناول أطعمة صحية وبعد تناول أطعمة فائقة المعالجة، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين اختيارتنا في نهاية المطاف.
لكن الأبحاث تشير أيضا إلى أنه في بعض الأحيان قد يؤدي رفع كافة القيود عما نتناول من الأطعمة إلى خيارات غذائية غير صحية، ومن ثم ينصح خبراء بتبني منهج الأكل الحدسي مع قدر ما من ضبط النفس. كما ينبغي استشارة الأطباء، ولا سيما إذا كان الشخص مصابا ببعض الحالات المرضية التي تستوجب تفادي بعض الأطعمة أو تقليلها.