آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أسبوع ديني في حياتهم؟

“ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم” (مر 33:10)، سجل إنجيل القديس مرقس ما أعلنه المسيح لتلاميذه عن مشاهد آلامه التي يُطوى بها الفصل الأخير من فصول خدمته على الأرض، والتي استمرت ثلاث سنوات، لتظل هذه الآلام وأحداثها ورموزها، على مدار نحو ألفي عام، أهم وأقدس المناسبات المسيحية في شتى أرجاء العالم.

ويحتفل أقباط مصر الأرثوذكس، مع كنائس التقويم الشرقي، بأسبوع الآلام الذي يعتبرونه أقدس مناسباتهم الدينية، ويبرز ذلك في طقوس تمتد لقرون عديدة، تعكس روحانية خاصة وملامح لحظات ومشاهد مليئة بتفاصيل يغتنمها المؤمنون للإكثار من حياة التأمل والصلاة طلبا للتعزية و”شركة الآلام” مع المسيح في تلك الأيام.

وأسبوع الآلام أو أسبوع “البصخة” – وهي كلمة آرامية تأتي بصيغتي “بسخا” و”فصحا” بحسب ما ذكره “المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم” للخُوري بولس الفغالي، وانتقلت إلى اليونانية واللغات الأوروبية والعربية وتعني “العبور” – يُطلق على فترة الأيام واللحظات الأخيرة في حياة يسوع المسيح على الأرض، وينتهي الأسبوع بـ “أحد القيامة”، ويحمل كل يوم اسما يميزه ويرمز إلى أحداثه: سبت لعازر، أحد الشعانين، إثنين البصخة، ثلاثاء البصخة، أربعاء البصخة (أربعاء أيوب)، خميس العهد، الجمعة العظيمة، سبت النور.

ونستطيع رصد تاريخ وملامح الطقوس القبطية في تلك الأيام اعتمادا على عدة مصادر أبرزها دراسة أعدّها ألبير جمال ميخائيل بعنوان “التمام في طقس أسبوع الآلام قطمارس ودلال أسبوع الآلام”، ودراسة الأغنسطس إبراهيم عياد جرجس ولجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف بعنوان “ترتيب أسبوع الآلام بحسب طقس الكنيسة القبطية”، ودراسة بيشوي فايز بعنوان “أسبوع الآلام، تأملات وتفاسير في أحداث وأناجيل أسبوع الآلام ساعة بساعة”، وتأملات الأب متى المسكين بعنوان “تأملات في أسبوع الآلام، من جمعة ختام الصوم إلى جمعة الصلبوت”، وتأملات الأنبا شنودة الثالث بعنوان “تأملات في أسبوع الآلام”، ودراسة “دراما الصليب” لمطرانية المنيا وأبو قرقاص، للأنبا مكاريوس أسقف المنيا العام.

وتلفت دراسة “دراما الصلب” لمطرانية المنيا وأبو قرقاص إلى أن “أسبوع الآلام أهم أسبوع في السنة كلها، فإذا كان الصوم الكبير هو أهم موسم في السنة، فإن أسبوع الآلام هو أقدس أيام هذا الموسم لذلك فهو بالتالي أقدس أيام السنة كلها… وقديما كانوا يحتفلون به مرة كل ثلاثة وثلاثين عاما، حتى انتبه أحد البطاركة إلى أن هناك بعض من الناس يولدون ويموتون دون الاحتفال به، فقرروا الاحتفال به سنويا، بل وضم أسبوع الآلام على الصوم”.

ويتابع الأنبا شنودة وصفه لتاريخ الطقس على المستوى الاجتماعي قائلا إن السادة أيضا كانوا يمنحون الخدم عطلة طول أسبوع البصخة “فمن حق الخدم أن يتفرغوا أيضا من أعمالهم لعبادة الرب”، ويضيف في دراسته “هكذا لا تكون روحيات السادة مبنية على حرمان العبيد، بل الكل للرب، يعبدونه معا ويتمتعون معا بعمق هذا الأسبوع وتأثيره”.

كان المسيحيون في القرون الثلاثة الأولى يصومون يومين أو ثلاثة أيام قبل عيد الفصح، ولكن في القرن الثالث بدأوا يصومون ستة أيام قبل العيد، وقد بدأ هذا الطقس في كنيسة أورشليم ثم انتقل إلى الكنائس الأخرى.

وكان أسبوع الآلام في مصر منفصلا عن الصوم الكبير، “الصوم المقدس”، إلى أن ضم البابا أثناسيوس الرسولي في عام 330 ميلاديا، الصوم الكبير مع أسبوع البصخة، وكان يبدأ يوم الاثنين التالي لأحد الشعانين.

وفي عصر لاحق، في القرن السادس أو السابع، اعتُبر سبت لعازر بداية أسبوع البصخة، وهو ما ذكره ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين، في القرن العاشر الميلادي، بحسب دراسة ألبير جمال ميخائيل.

بيد أنه في أعقاب دخول طقس يطلق عليه “الجناز العام”، اعتبره الأقباط فاصلا محددا لبداية أسبوع البصخة، لذا نرصد ما قاله ابن سباع، من القرن الثالث عشر، عن كون بدء أسبوع البصخة هو الساعة 11 من يوم أحد الشعانين، وهذا أيضا ما ذكره ابن كبر من القرن الرابع عشر.

كان الأقباط في مصر، بحسب دراسة ألبير جمال ميخائيل، يجتمعون في أسبوع الآلام ويقرأون الكتاب المقدس كاملا بعهديه “القديم والجديد”، إلى أن جاء الأنبا غبريال الثاني (ابن تريك)، البابا السبعون من بطريركية الإسكندرية عام 1131 ميلاديا، ونظرا لكثرة مشاغل الناس في مناحي الحياة وعدم استطاعتهم تكميل القانون الرسولي في هذا الشأن، جمع كهنة ورهبانا، ووضعوا كتابا سموه “كتاب البصخة” يضم ما يلائم من الكتب الأخرى.

رُتبت في هذا الكتاب صلوات باكر وآخر النهار وبقية الصلوات الليلية والنهارية، وصار معمولا به، إلى أن جاء الأنبا بطرس، أسقف مدينة البهنسا بالمنيا في صعيد مصر، في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وأعاد ترتيب كتاب البصخة، وأضاف إلى كل ساعة ما يناسبها من قراءات النبوات والأناجيل الأربعة، فصارت قراءات الساعات متساوية.

كما وضع الأنبا بطرس لكل يوم عظتين من أقوال الآباء، كما رتب خلال الأيام قراءة الأناجيل، في يوم الثلاثاء يُقرأ انجيل القديس متى، وفي يوم الأربعاء يُقرأ إنجيل القديس مرقس، وفي يوم الخميس يُقرأ إنجيل القديس لوقا، وفي ليلة العيد يُقرأ إنجيل القديس يوحنا، وكذلك المزامير ليلة سبت الفرح.

طقوس الأقباط في أسبوع الآلام

يحتفل الأقباط بأسبوع الآلام كل عام بقراءات دينية تبرز “رحمة الله على البشرية”، وتسلط الضوء على “آلام المسيح”، مع توشح الكنائس بالأغطية السوداء، وتغطية الأيقونات وبعض الجدران والأعمدة أيضا، تعبيرا عن حالة الحزن وشركة الآلام.

ويقول الأنبا شنودة الثالث في تأملاته: “اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم والجديد، كلها مشاعر وأحاسيس مؤثرة للغاية توضح علاقة الله بالبشر. كما اختارت له مجموعة من الألحان العميقة، ومن التأملات والتفاسير الروحية”.

وقسم الأقباط، خلال أسبوع الآلام، اليوم إلى خمس سواعي نهارية (أي صلوات في ساعة محددة) وخمس سواعي ليلية. الخمس النهارية تحتوي على صلوات (باكر، ثالثة، سادسة، تاسعة، حادية عشرة)، والخمس الليلية تحتوي على (أولى، ثالثة، سادسة، تاسعة، حادية عشرة)، أما في يوم الجمعة العظيمة فيصلي الأقباط صلاة سادسة وهي صلاة الثانية عشر.

ماذا حدث في أسبوع الآلام؟

يُطلق على كل يوم من أيام أسبوع الآلام كما ذكرنا اسما رمزيا مميزا لأبرز ما وقع فيه من أحداث: سبت لعازر، أحد الشعانين، إثنين البصخة، ثلاثاء البصخة، أربعاء البصخة (أربعاء أيوب)، خميس العهد، الجمعة العظيمة، سبت النور، وفيما يلي أهم ما وقع من أحداث في هذه الأيام بغية التعريف بها بإيجاز كما دونتها الأناجيل الأربعة.

هو السبت الذي يلي جمعة ختام الصوم المقدس، ويسمى أيضا سبت الشعانين كما ورد في كتاب ترتيب البيعة، أي يوم السبت السابق ليوم أحد الشعانين، ويحتفل الأقباط فيه بمعجزة إقامة يسوع المسيح لعازر من بين الأموات بعد أن أنتن في قبره ودُفن أربعة أيام.

تشير مصادر إلى الاعتقاد بأن هذه المعجزة حدثت يوم الجمعة أو قبل ذلك، بيد أن الكنيسة القبطية جعلت تذكارها في يوم السبت السابق لأسبوع الآلام بعلة أن رؤساء كهنة اليهود، بحسب الإنجيل، كانوا قد قرروا قتل المسيح بعد هذه المعجزة مباشرة، لذا ضمها الأقباط إلى أسبوع الآلام.

ورد ذكر معجزة إقامة لعازر من بين الأموات في إنجيل القديس يوحنا 11، لذا حرصت الكنيسة القبطية على ترتيب أربعة تذكارات له في كتاب السنكسار، الكتاب الذي يضم سير القديسين وتواريخ الأعياد والأصوام، مرتبة حسب أيام التقويم القبطي، كما يلي: تذكار موت لعازر (المرة الأولى) في 17 برمهات، تذكار إقامته من بين الأموات في 20 برمهات، وتذكار تشاور اليهود لقتله في 21 برمهات، وتذكار موته في 27 بشنس.

يعد أحد الشعانين، وهي كلمة عبرية “هوشعنا (أي يا رب خلّص)”، من الأعياد الكبرى لدى الأقباط، ويُحتفل فيه بألحان الفرح قبل الدخول في ألحان البصخة الحزينة الأيام التالية له.

يُطلق على أحد الشعانين تسمية أخرى في مصر حتى الآن وهي “أحد السعف”، وذلك لأن الأقباط منذ القدم وحتى الآن يحملون في هذا اليوم سعف النخيل بمظاهر الفرح مثلما فعلت الجموع قبل ألفي عام عند استقبالهم للمسيح في أورشليم.

يحي هذا اليوم تذكار دخول المسيح أورشليم، واستقبال الجموع له بسعف النخيل، مهللين “أوصنا يا ابن داوود”، وأوصنا كلمة يونانية بمعنى “خلصنا”، فقد كان اليهود، بحسب تفاسير الكتاب المقدس، ينتظرون ملكا أرضيا يخلصهم من حكم الرومان، واعتقدوا أن المسيح هو هذا الملك، ولكن عندما عرفوا أنه جاء ليبشرهم بملكوت الله لا ليخلصهم من بطش الرومان، صرخوا لاحقا أمام بيلاطس البنطي، والي مقاطعة اليهودية الروماني، (أصلبه أصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا).

ورد ذكر موكب دخول المسيح أورشليم في الأناجيل الأربعة، من بينها ما ذكره إنجيل القديس مرقس: “وكثيرون فرشوا ثيابهم في الطريق. وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق. والذين تقدموا، والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: (أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب! مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب! أوصنا في الأعالي)” (مر11: 8-10).

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments