من الشوارع الخلفية غير المعبّدة في الجزائر إلى المقاهي المليئة بالدخان في باريس، ومن حفل نوبل في ستوكهولم إلى حطام سيارة بالقرب من سينس في فرنسا، تجذب قصة ألبير كامو الناس، وتبهرهم تماماً كما فعلت الروايات التي أبدع في كتابتها مثل الغريب، والطاعون، والسقطة.
وُلد الأديب الفرنسي في الجزائر، ومات في فرنسا، وعاش غريباً مثل بطل روايته الأشهر الغريب، متمرداً وليس جزءاً من الحشود، وكان حادث السيارة الذي تسبب في وفاته غريباً، إذ انزلقت السيارة التي كان يستقلها على الجليد واصطدمت بشجرة، وكان حينها في السابعة والأربعين من عمره.
في 4 يناير/كانون الثاني من عام 1960 رحل أديب نوبل الفرنسي ألبير كامو – الذي وُلد في 7 نوفمر/تشرين الثاني من عام 1913 في موندوفي (الذرعان) بالجزائر – عن العالم، لكن لماذا ارتبط اسم كامو بالجزائر؟
السنوات الأولى
انتقل كامو وشقيقه الأكبر لوسيان مع والدتهما إلى منطقة الطبقة العاملة في الجزائر العاصمة، حيث عاش الثلاثة مع جدتهم لأمهم وخال مُقعد، في شقة من غرفتين.
وفي عام 1918، التحق كامو بالمدرسة الابتدائية وكان محظوظاً بما فيه الكفاية ليتعلم على يد معلم متميز وهو لويس غيرمان، الذي ساعده في الفوز بمنحة دراسية بمدرسة ليسيه الجزائر (المدرسة الثانوية) في عام 1923، وبعد سنوات طويلة، أهدى كامو معلّمه غيرمان خطاب نيله جائزة نوبل للآداب.
كان كامو في فترة شبابه المبكر مولعاً بالرياضة، وخاصة كرة القدم التي لعبها كحارس مرمى، كما مارس السباحة والملاكمة، ولكن في عام 1930، أدت أولى موجات مرض السل الشديد إلى إنهاء مسيرته الرياضية وإيقاف دراسته.
واضطر كامو إلى مغادرة الشقة غير الصحية التي عاش فيها مدة 15 عاماً، وبعد فترة قصيرة قضاها مع عمه، قرر كامو أن يعيش بمفرده، ويدعم نفسه من خلال مجموعة متنوعة من الوظائف أثناء تسجيله كطالب فلسفة في جامعة الجزائر.
وحصل كامو على دبلوم الدراسات العليا عام 1936 عن أطروحته حول العلاقة بين الفكر اليوناني والمسيحي في الكتابات الفلسفية لأفلوطين والقديس أوغسطين، ثم قطع دراسته المؤهلة للتدريس في الجامعة بسبب موجة أخرى من مرض السل.
ولاستعادة صحته ذهب إلى منتجع في جبال الألب الفرنسية، وذلك في أول زيارة له إلى أوروبا، وعاد في النهاية إلى الجزائر العاصمة بعد أن مرّ عبر فلورنسا وبيزا وجنوة.
مسيرة كامو الأدبية
طوال ثلاثينيات القرن العشرين، وسّع كامو اهتماماته، إذ قرأ الكلاسيكيات الفرنسية وكذلك كتب المعاصرين آنذاك ومن بينهم أندريه جيد، وهنري دي مونترلان، وأندريه مالرو، وكان شخصية بارزة بين المثقفين اليساريين الشباب في الجزائر العاصمة.
وأول عمل لكامو كانت مسرحية سمّيت الثورة في أستورياس، التي كتبها مع ثلاثة من أصدقائه في مايو/آيار من عام 1936 وموضوعها هو ثورة عمال المناجم في إسبانيا عام 1934 التي قمعتها الحكومة الإسبانية بوحشية، ما أدى لمقتل نحو 20 ألف شخص، وفي مايو/آيار من عام 1937، أصدر كتابه الأول بعنوان الوجه والقفا، ونشرته دار إدموند شارلوت.
كما نشر كامو في ذات الفترة عدة مقالات حول الريف الجزائري، وقدّم فيها الجمال الطبيعي كشكل من أشكال الثروة التي يمكن أن يتمتع بها حتى الفقراء جداّ في البلاد، وأبرزت مقالاته التناقض بين الطبيعة المؤقتة للبشر الذين يموتون، والطبيعة الدائمة للعالم المادي.
ورغم عشقه الكبير للمسرح والذي استمر حتى وفاته، إلا أنه من المفارقات أن مسرحياته هي الجزء الأقل إثارة للإعجاب في إنتاجه الأدبي، وإن كانت مسرحيته كاليغولا مازالت من المعالم البارزة في عالم مسرح العبث .
وفي العامين السابقين لاندلاع الحرب العالمية الثانية، أمضى كامو فترة تدريبه كصحفي بالجزائر حيث عمل في العديد من المناصب، بما في ذلك منصب كاتب افتتاحية ومراسل سياسي كما عمل كمراجع للكتب حيث قام بمراجعة بعض الأعمال الأدبية المبكرة لجان بول سارتر، وكتب سلسلة مهمة من المقالات التي تحلل الظروف الاجتماعية لسكان منطقة القبائل، وهي المقالات التي لفتت الانتباه إلى العديد من المظالم التي أدت لاندلاع الثورة الجزائرية فيما بعد.
واتخذ كامو هذا النهج بناءاً على أسس إنسانية وليس أيديولوجية، واستمر في رؤية دور مستقبلي لفرنسا في الجزائر دون تجاهل المظالم الاستعمارية، وكان يتمتع بقدر من التأثير كصحفي خلال السنوات الأخيرة من احتلال فرنسا للبلاد، وفترة ما بعد التحرير مباشرة.
وقد اتخذ، خلال عمله بالصحيفة الباريسية اليومية كومبات، موقفاً يسارياً مستقلاً يعتمد على مُثُل العدالة والحقيقة والاعتقاد بأن كل العمل السياسي يجب أن يكون له أساس أخلاقي متين.
قسم كامو عمله إلى مراحل، وتتكون كل مرحلة من رواية ومقالة فلسفية ومسرحية، وأولى تلك المراحل كانت دورة العبث التي تكونت من رواية الغريب، ومقالة أسطورة سيزيف، ومسرحية كاليغولا، أما الثانية فكانت دورة التمرد التي شملت رواية الطاعون، ومقالة المتمرد، ومسرحية العادلون، والمرحلة الثاثة هي مرحلة الإحساس بالذنب وتشمل رواية السقطة واقتباس مسرحية الممسوسين لدوستويفسكي، وكانت كل مرحلة عبارة عن فحص لموضوع ما باستخدام أسطورة وثنية وتضمين رموز كتابية.
وركز أول نجاح له في كتاب “الغريب” على عبثية الوجود، ولكن في أعماله اللاحقة، بما في ذلك “الطاعون” طور أفكاره حول الغريزة البشرية للثورة.
وتُعد روايته الغريب، التي بدأ في كتابتها قبل الحرب العالمية الثانية ونُشرت عام 1942، بمثابة دراسة عن الاغتراب في القرن العشرين مع صورة شخص “غريب” لا يقول أبداً أكثر مما يشعر به بصدق، ويرفض الامتثال لمتطلبات المجتمع.
وشهد العام نفسه نشره مقالة فلسفية مؤثرة بعنوان “أسطورة سيزيف” وقام فيها كامو، بتحليل العدمية والشعور بـ”العبث”.
لقد كان كامو يبحث بالفعل عن طريقة للتغلب على العدمية، وكانت روايته الثانية الطاعون الصادرة في عام 1947 بمثابة وصف رمزي للحرب ضد الوباء في وهران، وانتقل فيها من مفهومه الرئيسي الأول عن العبث إلى فكرته الرئيسية الأخرى عن”التمرد الأخلاقي والميتافيزيقي”.
وانتقلت فكرته عن التمرد إلى هوليوود حيث حققت الأفلام المُعبرة عنها إيرادات كبيرة في شباك التذاكر، وقد جسد نجوم السينما مثل جيمس دين ومارلون براندو أدوار شخصيات منعزلة على حافة المجتمع، لا تعرف ما تريده.
وشملت أعمال كامو الأدبية الرئيسية الأخرى: المقصلة، والموت السعيد، والمنفى والملكوت، والرجل الأول (سيرة ذاتية عن حياته في الجزائر).
مواقف سياسية
انتقد كامو بشدة الماركسية اللينينية، خاصة في حالة الاتحاد السوفيتي، وآمن بأن الاتحاد السوفيتي لم يكن اشتراكياً وأن الولايات المتحدة لم تكن ليبرالية، وأدى انتقاده للاتحاد السوفيتي إلى اصطدامه بمؤيدي من اليسار السياسي، وعلى الأخص مع صديقه جان بول سارتر.
فقد اتخذ كامو موقفاً محايداً خلال الثورة الجزائرية (1954-1962) حيث كان ضد ما زعم أنه عنف جبهة التحرير الوطني، كما اعترف بالظلم والوحشية التي فرضتها فرنسا الاستعمارية، وكان داعماً للحزب الاشتراكي الموحد بزعامة بيير منديس فرانس ونهجه في التعامل مع الأزمة، ودعوته إلى المصالحة، وسافر كامو إلى الجزائر للتفاوض على هدنة بين الطرفين المتحاربين، لكنه قوبل بعدم الثقة من قبل جميع الأطراف.
كما انتقد كامو بشدة انتشار الأسلحة النووية وقصف هيروشيما وناغازاكي، وفي الخمسينيات من القرن العشرين، كرّس كامو جهوده لحقوق الإنسان، وفي عام 1952، استقال من عمله في اليونسكو عندما قبلت الأمم المتحدة إسبانيا، تحت قيادة فرانكو.
نوبل والوفاة
في عام 1957، وفي سن مبكرة حيث كان يبلغ من العمر 44 عاماً، نال كامو جائزة نوبل للآداب، وبتواضعه المعهود أعلن أنه لو كان عضواً في لجنة الجائزة لكان صوته بالتأكيد من نصيب أندريه مالرو.
وبعد حصوله على جائزة نوبل، جمع كامو أفكاره المناهضة للحرب، ونشرها في كتاب “الأحداث الحالية” الجزء الثالث: سجلات الجزائر 1839-1958 .