الحضارة المصرية القديمة: لماذا تراجع نفوذها أمام حضارات أخرى في الشرق القديم بعد تفوّق دام آلاف السنين؟

شهدت الحضارة المصرية القديمة واحدة من أطول مراحل الازدهار في التاريخ الإنساني، إذ امتدت قوتها ونفوذها لآلاف السنين بفضل اعتمادها على نظام سلطة مركزية متماسك، وجيش قوي، وإنجازات معمارية وفنية ودينية لا تُنَافس، فضلاً عن اقتصاد زراعي مستقر ارتبط بفيضان النيل، بيد أن هذا الاستقرار لم يكن دائماً، فبمرور الوقت بدأت عوامل الضعف تتسلل إلى البنية السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى “إضعاف نفوذها التاريخي” أمام إمبراطوريات ناشئة، وإن استمر تأثيرها الحضاري ظاهراً بوضوح في تكوين تلك الإمبراطوريات في الشرق القديم.

فمع تعرض مصر لفترات متتالية من غزو أجنبي، زادت التحديات التي قوضت ركائز قوتها، بعد أن فرضت القوى الخارجية أنماطاً سياسية واقتصادية جديدة، وقيّدت استقلالية المصريين في إدارة شؤونهم، فضلاً عن التغيرات الثقافية والدينية التي أدت إلى تراجع الموروث المصري التقليدي أمام مؤثرات أجنبية متلاحقة، وهكذا، فإن أفول نجم الحضارة المصرية القديمة لم يكن نتاج عامل واحد، بل تضافرت عناصر داخلية من ضعف وانقسام، وخارجية من غزو وسيطرة، جعلت تلك الحضارة تدخل تدريجياً في طور الانحسار.

ويرى مؤرخون أن سر تفوّق مصر الحضاري واستقرارها وقوتها عبر التاريخ يكمن في معادلة دقيقة جمعت بين تماسكها الداخلي ووجود سلطة مركزية قوية يدعمها جيش قوي قادر على حماية البلاد. فهذه العناصر الثلاثة، الوحدة الداخلية، والقيادة المركزية، والقوة العسكرية، كانت دائماً ركائز الحفاظ على توازن مصر وتأمين موقعها الجغرافي الحساس، الذي جعلها في قلب الأطماع والتحولات الإقليمية، ومن ثمّ، فإن كل خلل أصاب إحدى هذه الركائز انعكس بالضرورة على استقرارها وهدد مكانتها.

ونستعرض هنا بعض الأسباب التي أسهمت في تراجع نفوذ الحضارة المصرية قديماً بعد مجد دام آلاف السنين، وآراء بعض أبرز علماء تاريخ مصر القديم وحضارات الشرق الأدنى في هذا الموضوع في مسعى لحل هذا اللغز التاريخي الذي مازال يحير البعض، فضلاً عن محاولة الإجابة عن سؤال هل كان تراجع النفوذ التاريخي للحضارة المصرية أمراً حتمياً لا مفر منه في ظل صعود إمبراطوريات وحضارات أخرى في آسيا وأوروبا، أم كان بإمكانها الاستمرار ومقاومة عوامل التغيير وتحدي ميزان القوى الجديد في هذا الشرق القديم؟

ولا يزال علماء تاريخ مصر القديم يبحثون عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تصدّع نفوذ الحضارة المصرية القديمة، التي لم يبق منها سوى تراثها المادي المنظور، فهناك ثلاث آراء: أولها يرى بعض العلماء أن ذلك يرجع إلى العامل الجغرافي وامتداد البلاد طولاً مما أثر على مر العصور على تماسكها إدارياً وسياسياً.

ويرى العالمان الفرنسيان ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، في دراستهما “عالم المصريين”، أنه اعتباراً من الألفية الأولى ق.م، وقد سبقها إقصاء آخر ملوك الرعامسة، عام 1070 ق.م تقريباً، كان استقلال مصر السياسي قد انقضى “فباتت القوى الأجنبية صاحبة القرار في مصيرها وتناوبت سيطرتها مع انتفاضات وطنية نزعت إلى الاستقلال”.

وبحسب رأي العالمان الفرنسيان، يمكن تحديد بدايات مراحل انحسار نفوذ الحضارة المصرية القديمة من مدينة تانيس، في عهد الملك سمندس، مؤسس الأسرة الحاكمة الحادية والعشرين (التي تسمى أحياناً بعصر الكهنة والملوك)، والذي حكم لمدة 26 عاماً، وهي مرحلة يعتبرها المؤرخون بداية ما يعرف اصطلاحاً بـ “عصر الانتقال الثالث”، الذي تميز بضعف السلطة المركزية وتوزيع السلطة والنفوذ، حيث كانت السلطة الفعلية مقسّمة بين القصر الملكي في تانيس شمالاً وكهنة المعابد في طيبة جنوباً.

كما يمكن رصد بداية التغيير في تخلي ملوك تانيس عن اختيار وادي الملوك في طيبة مكاناً لدفن موتاهم، وأقاموا جبانة ملكية في تانيس تعبيراً عن إرادة سياسية جديدة ترمي إلى التأكيد على دور المدينة كعاصمة جديدة للبلاد وتحويلها إلى طيبة جديدة، وهو ما اكتشفه الأثري الفرنسي، بيير مونتيه، خلال حفائره التي امتد عمله فيها من عام 1939 إلى عام 1951 داخل حرم معبد تانيس الكبير، المكرّس لعبادة الإله آمون، حيث اكتشف دفنات ملوك الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين، وما تحويه من مجموعة فريدة من المتاع الجنائزي الفريد.

بيد أن العالم الفرنسي، جان فيركوتير، في دراسته “مصر القديمة”، يرى أن بداية انزلاق الحضارة المصرية الفعلي والملموس بدأ مع تولي آخر ملوك الأسرة الثانية والعشرين “شاشانق الثالث” و”بامي” وشاشانق الرابع”، بعد أن انتشرت الفوضى ونزعت مصر إلى مزيد من التقسيم، لاسيما في الدلتا.

ويقول: “ازدادت مصر انقساماً على انقسام، فإلى جانب انشطارها إلى شمال وجنوب، تجزأت إلى شرق وغرب في الدلتا، ويا ليتها كانت نهاية التقسيم، فإلى جانب الأسرة الحاكمة، ظهر ما يبدو العديد من زعماء الأسرات المحلية في الشمال، إلى أن قامت الأسرة الرابعة والعشرون”.

كما بلغ الوضع قدراً كبيراً من التعقيد والتشويش، في حوالي عام 730 ق.م، ففي الدلتا كان يتقاسم السلطة فراعنة الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين، من جانب وزعماء الأسرات الذين اغتصبوا السلطة المحلية وأغلبهم من العسكريين الليبيين، أما في الوجه القبلي فقد أمسك كبار كهنة المعابد بزمام السلطة في طيبة مع نزعة استقلال تجاه الحكومة المركزية تشهدها البلاد لأول مرة.

ومع غروب القرن الثامن ق.م، استطاع ملوك قادمون من الجندل الرابع جنوباً السيطرة على حكم مصر لفترة نصف قرن حتى عام 663 ق.م، وكانت البداية بحملات عسكرية قادها الملك بي عنخي، وعندما خلفه أخوه شاباكا، ودمّر ما تبقى من السلطة المصرية الوطنية في الدلتا، توّج نفسه ملكاً على البلاد في عام 713 ق.م، واعتبره المؤرخون مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين المعروفة اصطلاحاً بـ “الإثيوبية” ليصبح على رأس مملكة مصرية-كوشية تمتد من الجندل الرابع للنيل جنوباً حتى سواحل البحر المتوسط شمالاً.

وعلى الرغم من ذلك ظل تأثير مظاهر الحضارة المصرية ظاهراً بقوة، فحسبما يشير العالمان الفرنسيان، ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، ظل “لاهوت منف الذي دوّن في عهد شاباكا هو النسخة الأصلية التي تعود إلى الأسرة السادسة، ومتون الأهرام التي قام بصياغتها ملوك الأسرتين الخامسة والسادسة، لتصاحبهم في العالم الآخر، أعيد نقشها في مقابر العبادات الإلهيات في مدينة هابو”.

ويضفيان: “أما عن قائمة ألقابهم (الملكية)، فإذا استثنينا الاسم الشخصي الكوشي، فقد صيغت عناصرها الأخرى صياغة مصرية، سواء كانت أصيلة أو منقولة من القائمة التقليدية”.

لكن عندما نجح الآشوريون في السيطرة على زمام الأمور في مصر عام 664 ق.م، (بعد ثلاث محاولات فاشلة) ودفعوا الملوك الكوشيين إلى الجنوب مرة أخرى، تحالف أمراء مدينة سايس، في دلتا مصر، الذين سبقوا وقاوموا الغزو الإثيوبي، مع الوافدين الجدد، وفيما بعد استغل الملك المصري بسماتيك الأول الصعوبات التي تعرض لها الأشوريون في الشرق، ليفرض سلطته على مجمل أرض مصر واكتساب أكبر قدر من الحكم الذاتي، كما ظل خلفاؤه يستفيدون من المواجهات التي احتدمت بين الآشوريين وأبناء بابل، ليحتفظوا بما استعادوه من استقلال، بالاعتماد تحديداً على جنود أجانب من “المرتزقة الإغريق”.

ويقول فيركوتير عن هذه المرحلة: “علينا أن نؤكد بوضوح على حقيقة أن مصر بعد أن حُرمت من مواردها الأفريقية، باتت منذ ذلك العصر لا تدين بقوتها إلى جيشها الخاص، بل إلى استخدام المرتزقة الأجانب، فهؤلاء فقط كان في مقدورهم حماية مصر من امبراطوريات آسيا القوية”.

ويضيف: “الأجانب من المرتزقة الإغريق هم الذين وفروا لبسماتيك الأول القوى للسيطرة على رعيته ذاتهم، كما أنه دان للإغريق بإعادة قوة مصر العسكرية إلى سابق عهدها في مواجهة الآسيويين، وأصبحوا يشكّلون قوام جيشه، وأعيد تنظيم الأسطول المصري على نسق مثيله الإغريقي، وتأثر اقتصاد البلاد الداخلي ذاته بعد إقامة المستعمرات الإغريقية، ومن ثم لم تستطع مصر أن تكيّف نفسها مع ظروف الحياة الجديدة للعالم القديم، إلا بعد أن تنكرت لتقاليدها الخاصة”.

نجح ملوك الأسرة السادسة والعشرين، التي وضعت هزيمة معركة بلوزيوم (الفرما حالياً) على يد قمبيز ملك الفرس، نهاية لهم، بدون شك في إعادة تشكيل مصر موحدة قوية، فبفضل ما أجروه من تنقلات بين أصحاب السلطات في البلاد، استطاعوا إحكام قبضتهم على عموم البلاد، وعلى الفور استطاعت مصر أن تستغل ازدهارها الذي استعادته من جديد لتعيش نهضة فنية حقيقية، كانت حقاً بمثابة “تغريدة البجع” لمصر العجوز، بحسب تعبير جان فيركوتير.

“الفرس وتحديات النهوض”

وربما كان أحد أكثر الآراء حدة في تلك المرحلة بشأن ركود وتراجع الحضارة المصرية أمام الغزو الأجنبي هو ما ذكره العالم جيمس هنري بريستد في دراسته “تاريخ مصر من العصور المبكرة إلى الغزو الفارسي”، والذي حدد بشكل مطلق نهاية “التاريخ المتميز” لمصر في عام 525 ق.م مع دخول الفرس، واستنتج برستد أن “تراجع مصر وانتهاء تاريخها المميز كان بالفعل حقيقة لا رجعة فيها قبل أن يطرق قمبيز أبواب بلوزيوم، إذ كانت صلة (مصر) بالماضي قليلة، وربما لم تكن لها أية صلة به”.

ويضيف: “إذا كان حدوث تفجّر ضعيف للشعور الوطني قد مكّن هذا المصري أو ذاك من التخلص من النير الفارسي لفترة وجيزة، فقد يمكن تشبيه تلك الحركات بتقلصات تشنجية فارقها الوعي منذ زمن. ومع سقوط بسماتيك الثالث أصبحت مصر تنتمي إلى عالم جديد أسهمت بالكثير في سبيل تطوره، بيد أنه لم يعد في مقدورها القيام بدور فعّال فيه”.

ويرى سيمسون نايوفيتس، في دراسته “مصر أصل الشجرة” أنه حتى إذا كان من التطرف رؤية أن التراجع المطلق لمصر القديمة كان مع الاحتلال الفارسي (كما رأى برستد)، حتى وإن كان ذلك استباقاً للأحداث، “فليس من المبالغة القول بأن مصر كانت في ذلك الوقت بلداً عتيق الطراز وكان يجري استبعادها شيئاً فشيئاً ليس من النفوذ السياسي الدولي فحسب، بل كذلك من التغيرات الدينية والفلسفية والعلمية والثقافية الرائدة التي كانت تسود العالم في ذلك الوقت”.

ويضيف: “حتى وإن كان النظام المصري من الشمول والانتشار بحيث يحظى بالإعجاب ويؤثر، فقد توقف إسهام مصر الأصلي في تاريخ الدين والفن والعمارة بالفعل”، كما ظهر ما سماه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز “عصر المحاور” في القرن السادس ق.م، ولم تكن مصر جزءاً منه.

ويلفت نايوفيتس في دراسته إلى أن مقولة برستيد بأنه لم يكن هناك سوى “تفجّر ضعيف للشعور الوطني” بالنسبة لمصر في العصور الفارسية “لا تأخذ في الاعتبار أن الصخب المصري كان لا يزال قائماً. فقد استمرت مصر بمفردها وفي ظل حكم المحتلين الأجانب في القيام بأدوار مهمة بين قادة العالم السياسيين والاقتصاديين، حتى وإن كانت تلك العصور العظيمة من التجريب والتجديد الديني والفني قد ولّت”.

كما اتخذت الثقافة في مصر في زمن السيطرة الفارسية شكل التعدد اللغوي، على نحو خاص وملفت في عصر الأسرة السابعة والعشرين الفارسية 525-404 ق.م، والتأكيد على أن “الملك العظيم” يتحدث عدة لغات، وكان وادي النيل قد انفتح على مؤثرات أجنبية شديدة بالفعل بدءاً من فراعنة الأسرة السادسة والعشرين.

هكذا واجهت مصر وضعاً جديداً، وتحوّلت إلى أحد أقاليم الإمبراطورية الفارسية، وإن كان الفرس احترموا الثقافة المصرية، فإن سلطتهم لكي تصبح سلطة حقيقية، كان عليها أن تجد تعبيراً لها بالنص والاستعانة بناصية الفن.

إن تمثال الملك داريوس الأول (دارا الأول)، خليفة قمبيز، المنحوت على كتلة واحدة من الحجارة المصرية، والذي اكتُشف في مدينة شوشان أو سوسة الإيرانية عام 1972، يعد أول نموذج لتمثال ملكي فارسي واقفاً بكامل قامته، فالوضع الأمامي لجسد الملك ونوعية حفر النصوص المصرية يشيران إلى أن التمثال، من حيث تصميمه، نفذه مصريون وليس مقلدين فارسيين.

ونقرأ على مجموعة لقبي داريوس “الفرعونية”، نقلاً عن دراسة ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، أنه “الصورة الحية (للإله) رع” و”الذي اصطفاه أتوم، رب هليوبوليس”، وتناظرهما مدونة مسمارية ثلاثية اللغة، بالفارسية القديمة وباللغتين العيلامية والآكدية: “هذا التمثال من الحجر، أمر داريوس الملك، بنحته في مصر، حتى يعرف كل من سيراه في المستقبل … أن داريوس، ملك الملوك، ملك البلاد، ابن فيشتاسبا، الأخميني”، ويرى العالم الفرنسي بيير بريان أن صياغة تلك الوثيقة تنطوي على “ازدواج في المعنى وتعلن دلالات متناقضة”.

كان تحرير مصر من الفرس من نصيب الإغريق، ففي عام 332 ق.م هزم الإسكندر الأكبر الملك الفارسي “داريوس الثالث” عند إسوس ودخل الفاتح الجديد مصر بوصفه “محرراً ومخلصاًَ”، وينتهي تاريخ مصر القديم، بمعنى الكلمة، مع احتلال الإسكندر المقدوني، وسوف يتولى ملوك إغريق ثم رومان توجيه أقدار البلاد، ولن يحكم مصر، من الآن فصاعداً، فرعون من أبنائها.

ويقول الفرنسي فيركوتير: “دخول الإسكندر لمصر لم يكن صدفة عرضية، بل حدثاً لا مناص منه، شأنه شأن غزو الرومان، فيما بعد، نتيجة لتوازن القوى المتنافسة. فمصر في ذلك الوقت كانت جزءاً لا يتجزأ من عالم البحر المتوسط الذي لم يكن في وسعه ولا في مراده أن يتركها وشأنها”.

ويضيف: “كانت مصر أقوى وربما أكثر شباباً أيضاً، ومن المرجح أنها كانت تستطيع المحافظة على استقلالها بالارتكاز على أراضيها الأفريقية، ولكن عجزت الأسرات الوطنية الأخيرة أن تبعث الحياة في قوة مصر التليدة، ولم تنجح في إطالة أيامها بعض الشيء في مواجهة إمبراطوريات آسيا الشاسعة إلا بالاعتماد على القوات الإغريقية، وهو ما يفسر جزئياً الأسباب التي دفعت مصر إلى تقبل احتلال الإسكندر عن طيب خاطر”.

“الإسكندر وطمس مصر المصرية”

 

المصدر: BBC