الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب سابقاً أثرت على الصين بشدة، فما المتوقع لاحقاً؟

أصوات مكائن النفخ والكي والضغط على الجلد الأملس، تعيد الحياة إلى أحذية رعاة البقر الأمريكية المصنوعة بالكامل في الساحل الشرقي للصين. ثم يأتي صوت آخر لاستمرار اصطفاف الأحذية في خط التجميع، وأصوات الخياطة والقطع واللحام تتردد صداها من الأسقف العالية.

يقول مدير المبيعات في المصنع، السيد بينغ، 45 عاماً -لم يرغب في الكشف عن اسمه الأول-، “اعتدنا أن نبيع نحو مليون زوج من الأحذية سنوياً”. هذا حتى جاء دونالد ترامب.

وأثارت سلسلة من التعريفات الجمركية في ولاية ترامب الرئاسية الأولى حرباً تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. وبعد ست سنوات، تستعد الشركات الصينية لما سيحصل الآن بعد عودته إلى البيت الأبيض.

يتساءل بينغ، بنبرة تشكيك مما تعنيه الولاية الجديدة لترامب بالنسبة له ولزملائه – والصين “ما الاتجاه الذي يجب أن نتخذه في المستقبل؟”.

يقول بينغ إن رئيسه، الذي يملك المصنع، فكر في نقل الإنتاج إلى جنوب شرق آسيا، إلى جانب العديد من منافسيهم. ومن شأن ذلك أن ينقذ الشركة، لكنهم سيخسرون قوتهم العاملة. فغالبية الموظفين من مدينة نانتونغ القريبة، وعملوا هنا لأكثر من 20 عاماً.

ويشير بينغ إلى أن رئيسه على دراية بالجغرافيا السياسية التي تلعب دوراً، لكنه يقول إنه وعماله يحاولون فقط كسب لقمة العيش. ما زالوا يعانون من تأثير عام 2019، عندما ضربت الجولة الرابعة من التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب – 15 في المئة – السلع الاستهلاكية المصنوعة في الصين، مثل الملابس والأحذية.

وتضاءلت الطلبات منذ ذلك الحين وانخفض عدد الموظفين، الذي كان أكثر من 500 ، ليصبح نحو 200. والدليل موجود في محطات العمل الفارغة داخل المصنع، كما يطلعنا بينغ.

يحاول المصنع الحفاظ على انخفاض التكاليف، إذ يفكر بعض المشترين الأمريكيين بالفعل في نقل أعمالهم بعيداً عن الصين، بسبب تهديد التعريفات الجمركية.

لكن هذا يعني خسارة العمال المهرة، إذ قد يستغرق الأمر ما يصل إلى أسبوع لصنع زوج واحد من الأحذية، من فرد الجلد إلى إعطاء الحذاء النهائي تلميعاً نهائياً وتعبئته للتصدير. هذا ما حول الصين إلى أكبر مصنع في العالم – الإنتاج المكثف للعمالة والذي يكون رخيصاً أيضاً عندما يتم توسيعه ودعمه بسلسلة توريد لا مثيل لها. واستغرق الأمر هذا سنوات ليصل إلى ما هو عليه الآن.

يقول السيد بينغ، الذي يعمل هنا منذ عام 2015: “كان العمل هنا ذات يوم دورة مستمرة من فحص البضائع وشحنها – وكنت حينها أشعر بالرضا. لكن الآن الطلبات انخفضت، ما يجعلني أشعر بالضياع والقلق”.

“الأحذية التي تُصنع هنا منذ أكثر من عقد من الزمان غزت الغرب المتوحش. وهذه قصة مألوفة في جنوب مقاطعة جيانغسو، مركز تصنيع على طول نهر اليانغتسي ينتج كل شيء تقريباً، من المنسوجات إلى المركبات الكهربائية”.

وهذه من بين مئات المليارات من الدولارات من البضائع التي تشحنها الصين إلى الولايات المتحدة كل عام – وهو رقم تضخم بشكل مطرد مع تحول واشنطن إلى أكبر شريك تجاري لها.

انزلق هذا الوضع في عهد ترامب. لكنه لم يعاد إلى سابق عهده عندما تولى خليفته جو بايدن، الذي أبقى على معظم التعريفات الجمركية من عهد ترامب، مع تدهور العلاقات مع بكين.

في الواقع، فرض الاتحاد الأوروبي أيضاً تعريفات جمركية على واردات المركبات الكهربائية، متهماً الصين بصنع الكثير، غالباً بدعم من إعانات الدولة. وقد ردد ترامب ذلك – أن ممارسات الصين التجارية “غير العادلة” تضر بالمشترين الأجانب.

ترى بكين مثل هذا الخطاب على أنه محاولات غربية لخنق نموها، وحذرت واشنطن مراراً وتكراراً من أنه لن يكون هناك فائز في هذه الحرب التجارية. لكنها قالت أيضاً إنها مستعدة للتحدث و”التعامل بشكل صحيح مع الخلافات”.

والرئيس ترامب، الذي وصف الرسوم الجمركية بأنها “قوته الكبرى الوحيدة” على الصين، يريد بالتأكيد التحدث.

إن التهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة مدفوع بالاعتقاد بأن الصين “ترسل مسكن ومخدر الفنتانيل إلى المكسيك وكندا”. لذلك قد يطالبها ببذل المزيد من الجهد لإنهاء هذا التدفق. أو نظراً لأنه رحب بحرب المزايدة على تيك توك، فقد يرغب في التفاوض على ملكيته – أو التكنولوجيا الثمينة التي تعمل على تشغيل التطبيق – لأن بكين ستحتاج إلى الموافقة على أي بيع من هذا القبيل.

أيا كان الاتفاق، فإنه قد يساعد في إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. ولكن غياب أحدهما قد ينهي فجأة فرصة شهر العسل الثاني، مما يجهز ترامب وشي لعلاقة أكثر مواجهة.

إن موقف ترامب الأكثر ليونة تجاه الصين يقدم بعض الراحة. لكن أمله لا يزال أن يساعد التهديد بالرسوم الجمركية في دفع المشترين بعيدا عن الصين ونقل التصنيع إلى الولايات المتحدة.

بعض الشركات الصينية تتحرك بالفعل – ولكن ليس إلى أمريكا.

نقل المصانع

هذا هو مصنعه الثاني في كمبوديا، وينتجان معاً نصف مليون قطعة ملابس شهرياً، من القمصان إلى الملابس الداخلية. تتدحرج الشماعات التي تحمل سراويل قطنية أمامنا على خط آلي، وتتحرك من محطة إلى أخرى مع إدخال الخصر المطاطي والانتهاء من حواف الثياب.

وحالياً عندما يطرح العملاء المحتملون في الولايات المتحدة السؤال الأول، والذي أصبح متوقعاً ــ موقع مقره ــ فإن السيد هوانغ لديه الإجابة الصحيحة. ليس في الصين.

ويضيف “في حالة بعض الشركات الصينية، قال لها عملاؤها: “إذا لم تنقلوا الإنتاج إلى الخارج، فسوف ألغي طلباتكم”.

وتفرض الرسوم الجمركية خيارات صعبة على الموردين وتجار التجزئة، ولكن ليس من الواضح دائماً من سيتحمل العبء الأكبر من التكلفة. وفي بعض الأحيان يكون العميل هو المتضرر، كما يقول السيد هوانغ.

ويضيف “اعتبر وول مارت مثالاً. أبيع لهم الملابس بخمسة دولارات، ولكنهم عادة ما يرفعون السعر بمقدار 3.5 أضعاف. وإذا ارتفعت التكلفة بسبب الرسوم الجمركية الأعلى، فقد يرتفع السعر الذي أبيعه لهم إلى 6 دولارات. وإذا رفعوا السعر بمقدار 3.5 مرات، فإن سعر التجزئة سوف يرتفع”.

ويوضح “هذا أكثر مما أجنيه من ربح. إنه ضخم ولا نستطيع تحمله. إذا كنت تصنع الملابس في الصين في ظل مثل هذه التعريفات الجمركية، فهذا أمر غير ملائم على المدي الطويل”.

تتراوح التعريفات الجمركية الأمريكية الحالية على السلع الصينية من 100 في المئة على المركبات الكهربائية إلى 25 في المئة على الصلب والألمنيوم. حتى الآن، أُعفيت العديد من العناصر الأكثر مبيعاً، بما في ذلك الإلكترونيات، مثل أجهزة التلفاز والهواتف المحمولة.

لكن التعرفة الشاملة بنسبة 10 في المئة التي يقترحها ترامب يمكن أن تؤثر على سعر كل شيء يصنع في الصين ويصدر إلى الولايات المتحدة. وهذا ينطبق على الكثير من الأشياء – من الألعاب وأكواب الشاي إلى أجهزة الكمبيوتر المحمولة.

يقول هوانغ إن هذا من شأنه أن يشجع المزيد من المصانع على الانتقال إلى أماكن أخرى. ونشأت العديد من الورش الجديدة حوله والشركات الصينية من مناطق إنتاج المنسوجات مثل شاندونغ وتشجيانغ وجيانغسو وقوانغدونغ تنتقل إلى هناك لصنع السترات الشتوية والملابس الصوفية.

ووفقتً لتقرير صادر عن مجموعة التحليل والأبحاث “ريسيرش آند ماركتس”، فإن نحو 90 في المئة من مصانع الملابس في كمبوديا تديرها أو تمتلكها الصين.

يتدفق نصف الاستثمار الأجنبي في البلاد من الصين. وبُني سبعون في المئة من الطرق والجسور باستخدام القروض التي قدمتها بكين، وفقاً لوسائل إعلام رسمية صينية.

العديد من اللافتات على المطاعم والمحلات التجارية مكتوبة باللغة الصينية وكذلك باللغة الكمبودية المحلية. حتى أن هناك طريقاً دائرياً يسمى شارع شي جين بينغ تكريماً للرئيس الصيني.

وليست كمبوديا المتلقي الوحيد. إذ استثمرت الصين بكثافة في أجزاء مختلفة من العالم في إطار مبادرة الحزام والطريق للرئيس شي – وهو مشروع تجاري وبنية أساسية يزيد أيضاً من نفوذ بكين. هذا يعني أن الصين لديها خيارات.

وتزعم وسائل إعلام رسمية صينية أن أكثر من نصف واردات وصادرات الصين تأتي الآن من دول الحزام والطريق، ومعظمها في جنوب شرق آسيا.

 

المصدر: BBC