وراء الضحكات التي كانت تملأ وجه “شهد” إشراقاً، كان يكمن ألم عميق وصراع مع الاكتئاب، انتهى بقرار مفاجئ أنهت به حياتها.
“شهد كانت طبيعية جداً، اجتماعية، نشيطة، وحين أناديها دائماً كانت تلتفت إليّ مبتسمة. لم يظهر عليها أي شيء يدعو للقلق، بل على العكس، كانت تضحك الليلة السابقة للحادثة على أمور بسيطة، وكان ضحكها مبالغاً فيه، وهذا كان المؤشر الوحيد، لكنني لم أفهمه وقتها.”
في الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2024، أنهت الطالبة شهد، البالغة من العمر 17 عاماً، حياتها داخل دورة المياه في مدرستها في سلطنة عُمان. وتروي والدتها، السيدة عذراء، لبي بي سي تفاصيل الحادثة المؤلمة.
“ابتسامة المراهق قد تُخفي سراً”
وتضيف: لو كنت أعرف عن “الاكتئاب المبتسم”، ربما لكان لدي فكرة أنه رغم ابتسامة المراهق وضحكاته، قد يكون وراءها سر خفي.
هل يشعر المراهقون بالإرهاق ؟
تُعرّف أخصائية الإرشاد الإكلينيكي في مجال الصحة النفسية، بسمة آل سعيد، الصحة النفسية بأنها حالة من التوازن العاطفي والنفسي والعقلي، يتمتع فيها الفرد بالقدرة على مواجهة ضغوط الحياة والتأقلم معها، إلى جانب قدرته على بناء علاقات صحية مع الآخرين.
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني 1 من كل 7 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاماً على مستوى العالم من اضطراب نفسي، ما يمثل 15 بالمئة من العبء العالمي للأمراض في هذه الفئة العمرية. ورغم ذلك، “تظل هذه الحالات في الغالب غير معترف بها وغير معالجة”.
وتلفت آل سعيد إلى أنه في بعض الأحيان، تكون محاولات الانتحار وسيلة لطلب الانتباه أو توجيه رسالة، لكنها قد تنتهي بشكل مأساوي.
اضطرابات نفسية تهدد المراهقين: كيف نحميهم؟
تتعدد الاضطرابات النفسية التي يعاني منها المراهقون، كما تشير آل سعيد، ومنها: الاكتئاب، القلق، اضطرابات الأكل، الاضطرابات الحركية، تشتت الانتباه، اضطرابات السلوك، بالإضافة إلى إدمان الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تؤثر بشكل كبير في صحتهم النفسية.
من أبرز الاضطرابات التي يعاني منها المراهقون، تبرز اضطرابات القلق كأكثرها شيوعاً. وتشير الأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن 5.5 بالمئة من الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً يعانون من اضطرابات القلق.
وتوضح آل سعيد أن من الاضطرابات النفسية الشائعة التي يعاني منها المراهقون هو الاكتئاب، منها “الاكتئاب المبتسم”. و تكمن خطورة هذا النوع من الاكتئاب في صعوبة ملاحظته من الآخرين، مما يعقد عملية تقديم الدعم والمساعدة.
تشير آل سعيد إلى أن المكتئب المبتسم هو الشخص الذي يخفي آلامه خلف ابتسامة، ويظهر أمام الآخرين وكأنه طبيعي. “قد يكون ناجحاً، نشيطاً، واجتماعياً، لكنه في الواقع يعاني في صمت”.
يساهم التدخل المبكر في تقديم الدعم النفسي المناسب ويحول دون تفاقم المشكلة أو تطورها مستقبلاً. فالإصغاء ضروري، فالمراهقون في كثير من الأحيان “يتكلمون بصمت”.
من أبرز هذه العلامات التغيير المفاجئ في السلوك أو المزاج: إذا لاحظ الأهل تصرفات غير معتادة أو تغييرات مفاجئة في مزاج الطفل، قد يكون ذلك مؤشراً على وجود مشكلة. ورغم أن البعض يعتقد أن هذه التغيرات جزء من مرحلة المراهقة، إلا أن هناك فرق بين التغيرات الطبيعية والمشكلات النفسية التي تتطلب تدخلاً.
الانعزال قد يكون أمراً طبيعياً لفترة قصيرة، لكنه يصبح مقلقاً إذا تحول إلى انعزال كلي عن العائلة والأصدقاء لفترات طويلة، مما يستدعي انتباه الأهل لمراجعة حالته النفسية.
تروي هاجر، البالغة من العمر 23 عاماً، لبي بي سي: “تعرضت للتحرش وأنا في العاشرة من عمري، مما دفعني إلى الدخول في حالة نفسية سيئة وازداد شعوري بكراهية جسدي”.
في سن الخامسة عشرة، حاولت هاجر الانتحار، ولم يكن ذلك بسبب التحرش فقط، بل أيضاً بسبب انتقالها من دولة إلى أخرى، مما سبب لها صدمة نفسية. “أصبحت أنعزل عن العالم وأبتعد عن الاختلاط بالآخرين.”
” كنت أشعر بسعادة عند رؤية الدم، وكأنني تخلصت من مشاعري السلبية لهذا قمت بإيذاء نفسي بجرح يدي”. بدأت هاجر بارتداء ملابس طويلة حتى في فصل الصيف لإخفاء أي آثار للإيذاء جسدي.
وتصف هاجر ما مرّت به قائلة: “لا أعتبرها تجربة انتحار، بل هي محاولة لتفريغ مشاعري، إلا أنني في بعض اللحظات أردت الموت”.
لجأت هاجر إلى جلسات العلاج النفسي عبر الإنترنت مع الأخصائية نور وليد، بسبب “صعوبة الوصول إلى العلاج النفسي في اليمن”. وتصف هاجر تجربتها العلاجية بأنها كان لها تأثير عميق في حياتها، إذ أصبحت أكثر قدرة على التعبير عن مشاعرها وحققت نضجاً أكبر. وتؤكد قائلة: “أنا اليوم بخير”.
ومن العلامات المهمة التي يجب الانتباه لها تغيرات في نمط الأكل مثل فقدان الشهية الشديد أو الإفراط في الأكل، وتقول آل سعيد “إذا تمكن أبناؤنا من عبور جسر المراهقة بسلام، ستكون حياتهم المستقبلية أفضل. أما إذا واجهوا اضطرابات في هذه المرحلة، فقد تستمر التحديات معهم في المستقبل”. لذلك، نولي اهتماماً كبيراً لهذه الفترة الحساسة.
“لا أريد أن أخسر أبنائي”
كشفت دراسة أجريت في جامعة مولود معمري “تيزي وزو” في الجزائر لعام 2023-2024 على 50 طالباً، أن القلق الاجتماعي، الذي يعد من أبرز الاضطرابات النفسية، يتأثر بشكل كبير بالمعاملة السلبية والتسلطية التي يتعرض لها الأبناء من الوالدين، خاصة خلال مرحلة المراهقة.
وبذلك، يعاني المراهق من ضغوط داخلية وخارجية ناتجة عن تنشئته الأسرية، مما يبرز الحاجة الملحة للعناية والدعم من قبل الوالدين ليشعر بالاستقرار النفسي ويساهم في بناء علاقات اجتماعية صحية. وقد توصلت نتائج الدراسة إلى وجود علاقة بين أساليب المعاملة الوالدية ومستوى القلق الاجتماعي لدى المراهقين.
تروي والدة آدم، البالغ من العمر 14 عاماً، أنها لاحظت تراجع تحصيله الدراسي، وبدأت في مقارنته بزملائه. تقول: “ابني كان يشعر بالفشل ويقول “أنا غبي”. المجتمع يركز فقط على التحصيل الأكاديمي، في حين أن ابني اجتماعي ولديه حس فكاهي، لكن تم تهميش هذه الصفات.” وتضيف: “لا أريد أن أخسر أبنائي، ولن أسمح لأي معايير مجتمعية أن تقصر تقييمهم على تحصيلهم الأكاديمي. إنجازاتهم هي التي تحددهم.”
تشير الأخصائية بسمة آل سعيد إلى أن بعض العبارات التي يقولها المراهقون قد تكون مؤشراً على مشاعر العجز والاكتئاب. كثيراً ما يتجاهل الأهل هذه الكلمات على أنها مجرد تعبيرات عابرة، لكنها قد تكون علامات تحذيرية لمشاعر أعمق.
وبدورها تؤكد الريماوي،وهي مستشارة أسرية أيضاً، أنه إذا شعر الأهل أن الصعوبات التي يواجهها أبناؤهم المراهقون أكبر من قدرتهم على التعامل معها، فإن اللجوء إلى مختص يصبح خطوة ضرورية. لكن قبل ذلك، يجب التأكد من عدم وجود أنماط تربية خاطئة مثل الحماية الزائدة أو المقارنة المستمرة بالأقران، لأنها قد تؤدي إلى تمرد المراهقين.
وتشدد على أهمية “تقبل أبنائنا كما هم”، مع مراعاة أن قدراتهم تختلف عن قدرات الآخرين. من المهم أن نركز على تعزيز الجوانب الإيجابية في شخصياتهم، ليشعروا بأنهم مميزون بصفاتهم الفريدة، بدلاً من فرض الصفات التي يرغب الأهل في أن يمتلكوها.
يرى المختصون أن العديد من الأسر تفتقر إلى الحوار المفتوح مع الأبناء، مما يمنعهم من فهم أفكارهم ومشاعرهم. تؤكد آل سعيد أنه من الضروري أن يتجنب الأهل ردود الفعل الحادة، حتى يشعر الأبناء بالراحة والقدرة على التعبير بحرية. كما يُفضَّل أن يكون الحوار مشابهاً لتواصل الأصدقاء، بلا أي حواجز. فالتواصل الفعّال يعد من الأسس المهمة في بناء علاقة أسرية صحية.