- قوة الردع الصينية.. ليست نووية!
أكدت الصين أنها لن تسعى إلى سباق تسلح نووي، وأنها تعارض نشر الولايات المتحدة صواريخ هجومية في آسيا، وذلك وفقا لأحدث كتاب أبيض أصدرته بكين بشأن السياسة النووية.
وتتضمن الوثيقة، التي تحمل عنوان “ضبط الأسلحة ونزع السلاح ومنع الانتشار في الصين في العصر الجديد”، تحديثا للنسخة السابقة من الوثيقة الصادرة عام 2005. وأضافت أن الصين طورت صواريخ وأنظمة دفاع صاروخي لحماية نفسها، لافتة إلى أنه نظرا لمساحتها الشاسعة وبيئتها الأمنية المعقدة، فإن هذه القدرات تهدف إلى حماية السيادة والحفاظ على الأمن وردع الحرب، وليست موجهة إلى أي دولة أو منطقة أخرى.
أمام الصراع على شكل النظام العالمي القادم، بنت الصين إستراتيجيتها نحو الصعود الدولي، ولكن بمنحنى مختلف، تستطيع من خلاله بكين تحقيق الذات، والتوجه نحو كسر الاحتكار الأميركي في عالم الذكاء الاصطناعي
تدرك بكين أن “ركب” قطار التسلح النووي قد يكون متأخرا، بينما الولايات المتحدة هي التي ألقت أول قنبلة على هيروشيما اليابانية عام 1945، ولها مئات التجارب النووية، لا بل وتمتلك آلاف الرؤوس النووية. وليس هذا وحسب، بل ذهبت واشنطن إلى اعتماد إستراتيجية الاحتواء في شرقي آسيا لدول الطوق للصين، عبر استحصال كوريا الجنوبية على موافقة أميركية لبناء غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية، بعد اجتماع رئيس الوزراء الكوري الجنوبي لي جاي ميونغ مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث تم الاتفاق على تزويدها بيورانيوم عالي التخصيب، وقدرات محدودة على التخصيب والمعالجة، من أجل تزويد غواصاتها بقدرات صاروخية نووية.
حدث هذا رغم أن بكين أبدت اعتراضا على الاتفاق، وهو ما عبّر عنه السفير الصيني في سيول، داي بينغ، في تصريح صحفي، معتبرا أن ذلك يمس بشكل مباشر النظام العالمي لمنع الانتشار النووي، واستقرار شبه الجزيرة الكورية والمنطقة. إلا أن ذلك لم يجعل القيادة الصينية تتخلى عن دورها الريادي في منافسة واشنطن، ولم يدفعها للتنازل عن تصميمها على إحداث التغيير في النظام الدولي، ولكن على طريقتها وضمن سياساتها التي ترتبط باستيعاب الضغط الأميركي، والسير قدما نحو منافسة تكنولوجية واقتصادية قد تسقط العنجهية الأميركية.
أمام الصراع على شكل النظام العالمي القادم، بنت الصين إستراتيجيتها نحو الصعود الدولي، ولكن بمنحنى مختلف، تستطيع من خلاله بكين تحقيق الذات، والتوجه نحو كسر الاحتكار الأميركي في عالم الذكاء الاصطناعي. فالنماذج الصينية في الذكاء الاصطناعي، مثل “R-1” من “ديب سيك”، و”Kimi K2” من شركة “مون شوت إيه آي”، لها آثار سياسية تتجاوز المنافسة السوقية، أو حتى التطبيقات العسكرية المباشرة.
تعرف القوة الناعمة بأنها القدرة على التأثير في تفضيلات الجهات الفاعلة الأخرى، من خلال القيم المشتركة المتصورة، والجاذبية الثقافية، والأفكار المقنعة
تتيح هذه النماذج الصينية للمستخدمين حول العالم فرصة تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قابلة للتخصيص لتلبية الاحتياجات المحلية، وبهذا المعنى قد تكون الميزة الكبرى التي يمكن أن تقدمها النماذج المفتوحة للصين هي زيادة رصيدها من القوة الناعمة. فالتهديد الصيني الذي تشكله تلك النماذج لا يقتصر على لحاق الصين بالولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي، بقدر ما يتعلق بالاعتياد المتزايد لتقنيات الذكاء الاصطناعي عالميا. ففي ديسمبر/كانون الثاني 2025 بلغ عدد مستخدمي تطبيق “ديب سيك” النشطين 33 مليون مستخدم حول العالم، وبحلول أبريل/نيسان الماضي تضاعف هذا العدد ثلاث مرات تقريبا ليصل إلى 97 مليون شخص.
وقد أكد الرئيس التنفيذي لشركة “Hugging Face” الأميركية، المتخصصة في النماذج المفتوحة وتعلم الآلة، أن هناك 500 نسخة لتطبيقات مشتقة من نموذج R-1، حققت أكثر من 2.5 مليون تحميل خلال شهر مايو/أيار الماضي.
تعرف القوة الناعمة بأنها القدرة على التأثير في تفضيلات الجهات الفاعلة الأخرى، من خلال القيم المشتركة المتصورة، والجاذبية الثقافية، والأفكار المقنعة. وبينما تعتمد القوة الصلبة على القوة العسكرية، والقدرة على التهديد باستخدام القوة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية، فإن القوة الناعمة تعتمد في المقابل على مصادر متباينة مثل التكنولوجيا والتعليم والتجارة لتوسيع نفوذ الدولة.
وطوال الحرب الباردة وبعدها، دفعت الجاذبية العالمية للثقافة الأميركية والاقتصاد الأميركي العديد من الدول إلى التعاون مع واشنطن، مما أدى إلى ترابط تجاري وسياسي بين الدول، وجذب المهاجرين ذوي المهارات العالية إلى الولايات المتحدة، والذين ساعدوا بدورهم في تعزيز المزيد من الاختراقات التكنولوجية الأميركية.
لا يخفى أن الصين تستغل الحرب الروسية الأوكرانية، والنزاع القائم في الشرق الأوسط، والتوتر المستجد في بحر الكاريبي، فذلك وفقا لقراءتها يشكل ورقة ضغط عسكري على واشنطن
تعمل بكين على الصعود التقني والتكنولوجي، لا سيما عبر الذكاء الاصطناعي، كقوة ناعمة صاعدة قادرة على إحداث التغيير. وفي الوقت الذي يواجه الأميركي قوة صلبة على أكثر من جبهة، تعمد الصين إلى مضاعفة نفوذها في القوة الناعمة القادرة على رسم مسار التغيير والتأثير المباشر، وهو المسار الأسرع من القوة الصلبة التي تدفع نحو وجود قوة متصلبة مقابلة لها.
لا يخفى أن الصين تستغل الحرب الروسية الأوكرانية، والنزاع القائم في الشرق الأوسط، والتوتر المستجد في بحر الكاريبي، فذلك وفقا لقراءتها يشكل ورقة ضغط عسكري على واشنطن، التي ترزح تحت أعباء الدين، الذي دفع حكومتها إلى الإغلاق لأشهر، كي تستفيد من التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي وطرح المفاجآت للشركات الأميركية المحتكرة لهذا التطور.
كانت المعادلة بالأمس ترتكز على السيطرة على مصادر الطاقة، أما اليوم فقد تغيرت من الطاقة إلى الذكاء الاصطناعي وامتلاك الشرائح الإلكترونية، التي تظهر الصين للعالم قدرتها على إنتاجها وصناعتها. فهل دخلت الصين فعلا مرحلة إزاحة الأميركي عن التربع على عرش السيطرة على النظام العالمي؟ أم سيساهم هذا التقدم في “التعجيل” بقرار واشنطن إشعال حرب الاحتواء للصعود الصيني، انطلاقا من تايوان ودول الطوق للصين؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة