بين عامي 1978 و1995، قُتل ثلاثة أشخاص وأصيب 23 آخرون في حملة تفجير عبر البريد في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
الحملة استهدفت أشخاصاً يُعتقد أنهم يساهمون في تقدم التكنولوجيا الحديثة وتدمير البيئة الطبيعية.
أطلقت التفجيرات أطول وأغلى تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي في ذلك الوقت، وحمل الاسم الرمزي “UNABOMBER”، اختصاراً لعبارة مفجر الجامعات وشركات الطيران.
خلف هذه الجرائم المروّعة والفريدة من نوعها، كان يقف تيد كازينسكي الذي هاجم في 16 عملية مختلفة، خطوطاً جوية ومنشآت اقتصادية وأكاديميين، كان يعتقد أنهم يسهمون في “تقدم التكنولوجيا وإلحاق الضرر بالبيئة الطبيعية”.
ففي العام 2019، شهد العالم عمليتي قتل جماعي كانتا مدفوعتين بأفكار مرتبطة بما يسمّى بـ”الفاشية البيئية”. إحدى العمليتين كانت هجوم إل باسو في ولاية تكساس الأمريكية والذي وُصف بأنه جريمة الكراهية الأكثر دمويةً في مجتمع الأمريكيين من أصول لاتينية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث.
نشر الجاني في حينها منشوراً على الإنترنت، عن كراهيته للمهاجرين والاكتظاظ السكاني وتدهور البيئة كمحفز لغضبه. أما منفذ هجوم كرايستشيرش في نيوزيلندا في العام نفسه، والذي استهدف أشخاصاً مسلمين وقتل 51 شخصاً، فقد أعلن عن نفسه كمعتنق للفاشية البيئية وألقى باللوم على ارتفاع معدلات الولادة بين المهاجرين.
عندما نناقش سياسات تغيّر المناخ، غالباً ما نربط هذه السياسات بالحركات اليسارية، إذ اعتدنا على ميل الحركات اليمينية والشعبوية في الغرب عموماً إلى التقليل من أهمية هذه القضية، أو التشكيك في آثارها، أو حتى إنكارها تماماً.
مع ذلك، إذا نظرنا إلى القرن الماضي، نلاحظ أن العديد من الحركات اليمينية في أوروبا استغلت القضايا البيئية لتعزيز اجنداتها الخاصة. بل إن بعض الباحثين والكتّاب يعرّفون هذا الظاهرة بالفاشية البيئية، ويقولون إن لها جذوراً في الإيديولوجيات النازية والفاشية.
ويُعرِّف المؤرخ البيئي الأمريكي مايكل إي زيمرمان الفاشية البيئية بأنها “حكم شمولي يطلب من الأفراد التضحية بمصالحهم لصالح رفاهية الأرض، بما في ذلك الشعوب ودولهم”.
ويربط دعاة الفاشية البيئية بين تدمير الطبيعة وبين الحداثة والمجتمع الصناعي الذي يشعرون بأنه قلّل من الروابط بين “العرق والأرض”. ومن بين اهتماماتهم الرئيسية ما يرون أنه مشكلة الزيادة السكانية، بالإضافة إلى الهجرة والتعددية الثقافية “ونقل الأعراق بعيداً عن أوطانها”.
كما يُرجع البعض هذا النمط من التفكير في النهاية إلى شخصيات مثل الاقتصادي الأمريكي توماس مالتوس، الذي زعم في نهاية القرن الثامن عشر أن نمو السكان يتجاوز قدرة إنتاج الغذاء، ودعا إلى التحكم في زيادة السكان كحل لهذه المشكلة.
وتقول عالمة الأحياء والعلوم الإدراكية سماح كركي في حديثٍ لبي بي سي عربي إنه “في أوروبا كما في فرنسا، تستحوذ عدة مجموعات صغيرة من اليمين المتطرف على أسس الفكر البيئي ونظريات الانهيار، لتغذية الهواجس والهويات القومية وتبرير الخطابات القومية والوطنية. في الولايات المتحدة، يلجأ دعاة التفوّق الأبيض بشكل متزايد إلى السرّية وممارسة البقائية (Survivalism)”، وهي عقيدة يعتنقها أفراد ومجموعات يستعدون بشكلٍ استباقي لحالات الطوارئ، مثل الكوارث الطبيعية والكوارث الأخرى التي تسبب اضطراباً في النظام الاجتماعي. وتضيف كركي أن “النقطة المشتركة بين هذه الحركات هي وجود خيال يشمل الانحدار، والزوال، والاستبدال الحضاري المزعوم الناتج عن غزوات الأجانب”.
ما هي خصائص هذه الإيديولوجيا؟
العداء للهجرة والمهاجرين
ومع ذلك، تعتمد الفاشية البيئية أكثر على العنصرية النفسية الثقافية بدلاً من العنصرية البيولوجية. ففي الأولى، يتم رسم هرمية بين “الثقافات” أو “الحضارات” بدلاً من “الأجناس البيولوجية”.
وتضيف “في خطابات الفاشية البيئية، يتم الإشارة إلى أزمة الهجرة باعتبارها السبب وراء الخطر المناخي. شعارات مثل “اقتلوا الغزاة” من أجل “إنقاذ البيئة” تشرعن رهاب الأجانب من خلال تحميل المهاجرين مسؤولية تهديد وجودي”.
“تقاطع الكوارث”، وهو مفهوم شعبيّ روج له المنظّر الأيديولوجي الفرنسي غيوم فاي، يشير إلى أن المهاجرين سيفرّون من قاراتهم هرباً من الكارثة البيئية ليأتوا و”يلوثوا” الحضارة الأوروبية أو الأمريكية، التي تُعتبر “متفوقة في هذا التصور”.
تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب العثور حالياً على حركة أو حزب سياسي يتبنّى بشكلٍ علني وواضح أفكار الفاشية البيئية، لكن آثار هذه الأفكار موجودة عند العديد من الحركات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، خصوصاً المجموعات غير الرسمية التي تنتشر عبر الانترنت.
كما يمكن على سبيل المثال التعرّف إلى أفكار مرتبطة بالفاشية البيئية بين معتنقي نظرية “الاستبدال العظيم”، وهي النظرية التي ظهرت قبل سنوات في أوروبا وتروّج لفكرة أن هناك خطة منظمة لاستبدال السكان الأصليين الأوروبيين بمهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط، غالباً من المسلمين.