العديد من الناس تصل بهم السبل إلى الافتراق، إما لظروف قاهرة أو لرغبات متقلبة، كما هي القلوب تتقلب؛ فمن كان عزيزا بالأمس قد يصبح عدوا، أو مجرد نكرة، أو فرصة عابرة لم تسمح طبيعة الحياة بأن تنمو. أحيانا يكون الفراق رحمة من رحمات الله اللامتناهية تغمر عباده؛ لأن الحياة مع الآخر لن تطاق، وأحيانا يكون أحدهما فعلا يريد الفراق، أو كلاهما.
المهم هنا ليس لحظة الافتراق، بل ما بعدها: كيف يجب أن نتعامل مع الذكريات العابرة، مع الضحكات المرسومة في عقولنا، مع الجمل الرنانة التي لا تزال راسخة في أذهاننا، ومع تلك اللحظات التي شعرنا فيها أن الدنيا اختُصرت في إنسان من لحم ودم؟ لا شك أن هذه الأوصاف جميلة، ولكن قدر الله أجمل، ورحمته أوسع، وكرمه أسمى.
ما علينا حقا فعله هو أن نستشعر أن الدنيا بيد الله، وأن الجمال كله منه، والسعادة لا تكون إلا بما يقرره هو سبحانه. نحن عباد، وهذه هي حقيقتنا، لسنا روبوتات ولا حديدا؛ نتألم للفراق ونحزن، لكن هذا الألم يذوب عند أول ذكرى نمنعها من التسرب إلى عقولنا. فالموتى الأحياء لا يحملون السعادة كما توهمنا، ولا يملكون ضرا ولا نفعا، فكل هذه المفاتيح الدنيوية بيد الله وحده.
إن استشعرنا كرمه وجوده ولطفه، علمنا أن الله قادر على أن يبدل “الأحياء الجيف” بأحياء يشعرون، وأن يبدل العليل بصحيح يبصر؛ فسرّ الكون في صبر غير ممنون يملأ السماوات، ويُغذّى بدوام الصلوات.
الإنسان حين يكون غير واعٍ يصبح فريسة سهلة للملذات الشيطانية؛ فالشيطان لا يحتاج استثمارا كبيرا في هذا الباب، كل رغبته أن يدخلك في أتون حروب نفسية أنت في غنى عنها
الشيطان والفتن النفسية
كم يؤلمني أن يتلاعب الشيطان بالإنسان، ويوسوس له أن يفتح دفترا امتلأ خرابيش سوداء، وسُطرت فيه دماء الجراح وثقوب الطعنات… دفاتر إذا أغلقتها شعرت بالراحة، وإذا تجنبتها وجدت الاستراحة.
فلماذا إذا يعبث بك ذاك الخبيث، ويدفعك إلى كشط جرح قد التأم؟ لماذا تقع في الحفرة نفسها كل مرة؟ ألم تقتنع بعد أن حُكم الله هو الأقل ألما؟ ألم تؤمن بأن الله لا يريد لك إلا السعادة، وأن الشيطان لا يريد لك إلا التعاسة؟ فإذا كان جوابك “نعم”، فلماذا تجر على نفسك الويلات، وتفتح أبوابا أُغلقت بالكابلات؟
الإنسان حين يكون غير واعٍ يصبح فريسة سهلة للملذات الشيطانية؛ فالشيطان لا يحتاج استثمارا كبيرا في هذا الباب، كل رغبته أن يدخلك في أتون حروب نفسية أنت في غنى عنها.
فقط لو أحسنت إدارتها، وأصلحت علاقتك بالله، واعتنيت بالصلوات وأكثرت من العبادات المحيطة بها، ستجد أن السعادة وراحة البال ليست فقط في الصلوات الخمس المفروضة، بل في العيش اليومي لمعانيها، والتلذذ بتفاصيلها، فكل هذا يبني جدارا يمنع الشيطان من اختراقه.
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي ﷺ: »المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن “لو” تفتح عمل الشيطان« (صحيح مسلم).
لهذا الحديث دلالة عظيمة على كيفية تربص الشيطان بسعادتنا وغرسه الألم فينا عند كل موضع وسبب؛ فالإنسان في الحقيقة ضحية إن لم يدرك مداخل الشيطان، وأولها كلمة “لو” (لو قلت كذا لما خسرت كذا، لو فعلت لما حدث كذا…)! لا، بل قل: الحمد لله دائما وأبدا على ما مضى وعلى ما سيأتي.
فتلك اللحظات تعوض، وتلك الكلمات تُبدل، والإنسان مجبر على النسيان. فالموتى الأحياء ليسوا نهاية الطريق، بل معلم من معالمه، وكلما خطرت على نفسك ذكراهم، فاستعذ بالله منهم ومن الشيطان، فهذه الخاطرة هي الهالكة؛ التي إن غمست نفسك فيها غرقت، وإن أفلتَّ منها استرحت.
إن الموتى الأحياء قدر كتبه الله لنا لنتجاوزهم… ربما في تجاوزهم حكمة ربانية نعجز عن إدراكها، وربما أقدار الله اقتضت أن تمنع السعادة معهم، أو أن تأبى الحياة أن تحلو بهم
التوازن بين الروح والنفس
صحيح أنني استطردت في الجانب الروحاني، إلا أن الإنسان يجب ألا يغفل الجانب النفسي… علينا أن نعي أن أول ما يجب مقاومته عند الهجمات الشيطانية، بعد الاستعاذة والوضوء واللجوء إلى الله، هو مراقبة المشاعر؛ فهي جوهر كل حزن وغضب وما شابههما.
راقب مشاعرك واستوعب أنها لن تدوم، وأن لكل شعور عمرا محدودا، لكن الأهم أن تفصل بين الشعور ومسببه… هذا الفصل يجعلك أكثر سيطرة على نفسك، ويمنعك من الغرق في بحر ملوث بالوساوس والانفعالات المستمرة؛ فعلاج الوساوس هو الالتزام الروحاني من صلاة وذكر واستعاذة، أما علاج الجانب النفسي فهو بالفصل، وهو- رغم صعوبته- السبيل الوحيد للنجاة النفسية.
ولتختبر نفسك، اسألها: هل المشكلة التي واجهتك قديما وأرهبتك تُحدث فيك الآن الشعور نفسه؟ إن كان الجواب “لا”، فهذا ما أعنيه بالفصل، ولكن المطلوب هو الفصل الفوري وقت عنفوان المشاعر؛ أي أن تتعامل مع المشكلة وتحاول علاجها دون الانغماس في مسببها، فحينها يتشتت عقلك بين المشاعر والمسبب، وهذا بلا شك يساعد على إدارة نفسك وألا تكون ضحية لها مجددا.
إرادة الله غالبة لا محالة، فالله منع عن الطيب الخبث، وأكمل الخبيث بخبث، فلا الطيب يستكين للخبث، ولا الخبيث يود الطيب
في الختام، إن الموتى الأحياء قدر كتبه الله لنا لنتجاوزهم.. ربما في تجاوزهم حكمة ربانية نعجز عن إدراكها، وربما أقدار الله اقتضت أن تمنع السعادة معهم، أو أن تأبى الحياة أن تحلو بهم. لا نعلم، ولكن علينا أن ندرك تمام الإدراك أن ما يدور في عقولنا ما هو إلا رماد مشاعر محروقة، يسعى الشيطان لنفخها لتدمع العين ويضيق الصدر. والحقيقة أن إرادة الله غالبة لا محالة، فالله منع عن الطيب الخبث، وأكمل الخبيث بخبث، فلا الطيب يستكين للخبث، ولا الخبيث يود الطيب.
تلك سنة الله الكونية التي أرسى قواعدها، وبنى عليها منهجه؛ فلنحمد الله تعالى في كل مرة غلب فيها قدره رغباتنا، ولنؤمن كمال الإيمان بأن ما أقره الله هو الخير، وما تهواه ذواتنا هو الشر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة