عصر كل يوم، يقصد اليمني محمد قائد صالح ناصر منطقة جبلية في قرية الأجواد.
من ذلك المكان فقط يستطيع التواصل مع العالم، إذ أنه المكان الوحيد تقريباً الذي يمكنه فيه الاتصال بشبكة الهاتف، غير المتوفرة في قريته القريبة في محافظة لحج.
رداءة شبكة الهاتف ليست مشكلة محمد الوحيدة، فبعد أن نسقتُ معه موعداً هاتفياً، في الوقت الذي يقصد فيه ذلك الموقع الجبليّ، تحدثت معه عن مشاكل أخرى يعاني منها السكان في المنطقة.
أخبرني ناصر أنّه خسر نحو ثلثي أراضيه الزراعيّة بسبب السيول التي ضربت المنطقة خلال العامين الماضيين.
اليمن “السعيد”
لكن البلد الذي يعتمد جزء كبير من سكانه على الزراعة للعيش، فقد مساحات زراعية واسعة، إذ قال وزير المياه والبيئة اليمني، خلال مؤتمر قمة المناخ في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنّ اليمن خسر في عام واحد 30 في المئة من أراضيه الزراعية.
ويعود ذلك لسببين أساسيين متناقضين: السيول التي تجرف التربة خلال موسم الأمطار، والجفاف في الموسم الحار.
“لا وظائف، ولم يبق سوى العمل في المزارع”
المزارعة اليمنية أروى علي أحمد نابت، إحدى مزارعات منطقة الخداد، في محافظة لحج، جنوب شرق العاصمة، وتعيل عائلة من تسعة أفراد بعد وفاة والدها.
في محافظة لحج، غالباً ما تكون النساء مسؤولات عن إعالة عوائلهن، وتقول أروى إنّ النساء علّمن بناتهن في الكليات، لكن شهاداتهن عُلّقت على جدران المنازل، إذ لا توجد وظائف حكومية، فتوجهن للعمل في المزارع بعد أن أصبح ذلك خيارهن الوحيد.
لكن حيث تعيش وتعمل أروى، بدأ المزارعون بالشعور باليأس بسبب تكرر السيول التي دمرت المزارع خلال السنوات الأخيرة.
يقول تقرير لمجموعة البنك الدولي صدر عام 2023 إنّ اليمن سيشهد المزيد من ارتفاع منسوب مياه البحر وارتفاع حرارة سطح المياه، وأنّ تداعيات هذه التغيرات ستصحب معها المزيد من الفيضانات والسيول والجفاف.
وتعلّق أروى على ذلك: “أغلب الناس يعيشون على الزراعة، يجب إحياؤها من جديد، لا بديل عن الزراعة، إن انتهت .. انتهينا نحن معها”.
وهنا تذكر أروى مشكلة أخرى يعاني منها المزارعون في لحج، وهي توفير المياه خلال فترة الجفاف، إذ تتهم أروى جهة – لم تسمّها – بالمسؤولية عن توزيع المياه بشكل غير عادل، و”لمن يملك المال حصراً” كما تقول.
توضح أروى أن قطع المياه عن المزارعين، أو تقليل مصادرها دفعت العديد إلى بيع أراضهم، بينما يقف البعض الآخر متفرجاً على أرضه التي تدمرت ولم يستطع إصلاحها أو حتى بيعها.
كان راتب المزارعات في السابق ثلاثة آلاف ريال (ما يعادل 12 دولار أمريكي) لكل يوم عمل، وتمّ رفعه لاحقاً إلى خمسة آلاف ريال، لكنه لا يزال أدنى من راتب يوم عمل للمزارع الرجل، ومع ذلك اضطرت العديد من النساء إلى العمل كمزارعات في المزارع الكبيرة مقابل “أجر يومي”، بينما “ذهب الشباب للمشاركة في القتال” كما تقول أروى.
القات
ويشتكي ناصر عن خطر آخر يهدد محصوله إلى جانب السيول في الوقت الحالي، وهو خطر الآفات التي تضرب المحاصيل.
ويقول محمد إنّ الآفة دمرت محاصيل القات التي يعتمد عليها غالبية المحاصيل لتأمين مصاريفهم، إذ يشكّل القات غالبية المحاصيل، بالإضافة إلى بعض الحبوب الأخرى.
ويوضح محمد أنّ هناك تشجيعاً لاستبدال محاصيل القات بزراعة محاصيل أخرى، لكنّ الكوارث الأخيرة ومشاكل القطاع الزراعي تحول دون ذلك وجعلت “الناس على باب الله”، وحتى أن بعض المزارعين أصبحوا يبحثون عن فرصة عمل يومي في أي مجال آخر، و”بعضهم يذهب للقتال أو للعمل في مصانع المشتقات النفطية الخليجية”.
غلاء المعيشة والبطالة، وكيس الدقيق الذي أصبح يعادل ثلاثين دولاراً – بحسب محمد ناصر – كلها مشاكل ضيّقت الخناق على اليمنيين، لا سيما المزارعين منهم، وتضاف إلى قائمة سبق ذكرها من مشكلات مناخية أصبحت تهدد مصادر رزقهم كل عام.
ويشتكي محمد من أنّ الصندوق الدولي خصّ أشخاصاً دون آخرين بالتعويضات، موضحاً أنّ المزارعين اعتمدوا على أنفسهم بما وجدوه من أدوات لمواجهة الطقس المتطرف الذي بات يهدد اليمن، وقاموا بإنشاء حواجز بدائية ضدّ السيول.
الزراعة والأمن الغذائي في اليمن
وأطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام الماضي مع منظمات دولية أخرى، مشروع تمكين البنية التحتية الزراعية في محافظة تعز كنوع من الدعم الدولي لليمنيين.
لكنّ المزارع خالد عبد الغني يقول إنه لا يوجد أي نوع من الدعم، سواءً من “الدولة، أو المنظمات، أو من فاعلي الخير”.
يعيل خالد عائلة من سبعة أفراد، ويقول: “ليس لدينا سوى الزراعة لنعيش، لكن بعد الأضرار التي لحقت بالقطاع، لا نستطيع اليوم حتى تأمين قوتنا منها”.
يتجول عبد الغني بين أشجار مزرعته كاشفاً عن ثمارها التي أُصيبت ببعض الآفات، ويكرّر الحديث ذاته حول السيول والآفات، ويوضح أن “حشرة المنّ التي تغزو الثمار، تتسلل إلى جوف الأرض وتتسبب في جعل الترابة أكثر صلابة”.
يقول خالد إنّ السيول وحبات البرد تأتي في موسم الأمطار، وتجرف بعضاً من التربة وتترك الأرض قاسية وغير قابلة للزراعة، فيقوم المزارعون بترميم أراضيهم بأيديهم و”بما توفر لنا من إمكانيات”، ثم يأتي فصل الصيف فيضربها الجفاف خاصة وأن الآبار التي تنتشر في المنطقة دون جدوى، بسبب عدم وجود مضخات لتشغيلها.
هذا الحال فاقم أزمة اليمن، إذ تقول دينا صالح، المديرة في إيفاد، إن الصراعات الداخلية والصدمات الناتجة عن عوامل خارجية مثل وباء كورونا، والحرب في أوكرانيا، “أثرت بشكل عميق” على القطاع الزراعي، ما زاد الضغط على صغار المزارعين في اليمن.
وتوضّح دينا أن المساعدات التي قُدّمت لليمنيين “ليست كافية وغير مستدامة”، مشيرة إلى أنه “عندما تضيف تأثير تغير المناخ، ونقص البنية التحتية المناسبة، والقدرة المحدودة للحكومة على تغيير أي من ذلك في أي وقت قريب، تدرك أن الزراعة في اليمن تحتاج إلى المزيد من الاستثمار”.
حال منى أحمد قاسم في تعز ليس أفضل من حال بقية المزارعين الذين تحدثنا إليهم، فوضع نساء اليمن العاملات في الزراعة يزداد صعوبة مع حمل مسؤولية المنزل والعائلة، وأجور أقل من العاملين الذكور.
أنشأ زوج منى محمية زراعية، وعملا فيها سوياً أربع سنوات، حتى اجتاحت المنطقة عاصفة قوية قضت على ما فيها.