“لن أنجب إلا بعد خمس سنين من الزواج، لا أريد تحمل مسؤولية طفل الآن، كما أنني أريد تخطي البدايات الصعبة والتأكد من القدرة على توفير احتياجات الطفل المكلفة حالياً”، هكذا عبر محمد وليد، 32 عاماً والمتزوج حديثاً، عن رأيه في إنجاب الأطفال بعد الزواج.
فكرة محمد وليد أصبحت رائجة الآن بين الكثير من الشباب المتزوجين حديثاً أو المقبلين على الزواج في مصر، ليس فقط بسبب الأوضاع الاقتصادية وزيادة أعباء المعيشة وتكاليف الزواج، ولكن أيضاً بسبب الحملات الإعلانية والدينية الكثيرة التي تنظمها الدولة المصرية لحث المواطنين على تنظيم النسل والتحكم في معدلات المواليد.
وتتفق خلود، 22 عاماً، مع فكرة تنظيم النسل بل وتأجيل الإنجاب بعد الزواج، وتقول لبي بي سي إنها وخطيبها اتفقا على “إنجاب طفل أو طفلين فقط، وسوف يبدأ الإنجاب بعد ثلاث سنوات من الزواج.”
وأضافت خلود أنها لمست بين صديقاتها قناعة بفكرة تقليل عدد الأطفال، وأن يكون الإنجاب بعد عدة سنوات من الزواج، وذلك استجابة للدعوات الحكومية خاصة التي يتبناها رجال الدين في المساجد والدروس الخاصة، وأيضاً لـ “تخطي صعوبة البدايات وعدم الوصول إلى أسوأ النهايات.”
وأوضح عبدالغفار في بيان رسمي، أن هذه الفترة الزمنية أطول بحوالي 19 يوماً مقارنة بالفترة التي استغرقتها الزيادة من 106 إلى 107 ملايين نسمة وهي 268 يوماً، مما يعني تباطؤ معدل الزيادة السكانية.
وتشير هذه الأرقام إلى أن هذا التراجع ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو نتيجة استراتيجية حكومية متكاملة، وهو ما أكده الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، مشيراً إلى أن انخفاض معدلات الزيادة السكانية جاء في إطار “الاستراتيجية القومية للسكان.”
استراتيجية محمد علي
لم يكن اهتمام الدولة المصرية بتقليل عدد السكان وكبح جماح الزيادة السكانية وليد العصر الحالي، بل اهتمت الأنظمة في مصر دوماً منذ بناء الدولة الحديثة في عهد محمد علي باشا. فقد أرجعت الحكومات عدم نجاح سياساتها التنموية إلى زيادة أعداد الرعية، بحسب الدكتور محمد الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة دمنهور.
وتتضمن الاستراتيجية المصرية الجديدة بحسب الدكتورة سدرة الشيخ، استشاري أمراض النساء والتوليد بالمركز الطبي العالمي، عمليات ميدانية لتعزيز برامج التوعية، وتحسين خدمات تنظيم الأسرة، وتوفير الرعاية الصحية الشاملة.
وأوضحت الدكتورة سدرة، استشاري النساء والتوليد بجامعة القاهرة أيضاً، أن الاستراتيجية تضمنت أيضاً تخفيض الدعم الحكومي للأسر من خلال خفض السلع المدعومة وتقليص عدد المستفيدين من بطاقات التموين، وهو ما أدى إلى مخاوف الكثير من الأسر من عدم القدرة على تحمل أعباء الحياة، خاصة في ظل ارتفاع التضخم بشكل كبير.
وتعاني نيفين، المتزوجة ولديها ثلاثة أبناء، من هذه المخاوف، وتقول لبي بي سي إنها وزوجها قررا عدم إنجاب المزيد من الأطفال، “بعد ارتفاع الأسعار بشكل كبير وعدم قدرتنا على توفير احتياجاتنا الأساسية.”
وربما كان التضخم الذي ضرب مصر على مدار الأشهر الماضية سبباً في تراجع البعض عن فكرة زيادة الأطفال. فقد وصل معدل التضخم السنوي إلى 14.90في المئة في يونيو/حزيران الماضي، ورغم انخفاضه إلى 13.90في المئة في يوليو/تموز الماضي، إلا أن الأسعار ما زالت مرتفعة وتضغط على الأسر المصرية بشكل كبير.
وأضافت نيفين: “رغم أننا نسكن في محافظة الدقهلية، في دلتا مصر، وزوجي ميسور ولديه وظيفة وأرض زراعية، إلا أن الحياة أيضاً أصبحت صعبة وتكاليف المعيشة غير محتملة.”
تغير الوعي الجمعي
كشفت البيانات الإحصائية الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في متوسط عدد الأطفال لكل أسرة، والذي يُعرف علمياً بـ “معدل الخصوبة الكلي”، ليتراجع معدل الخصوبة في مصر من 3.5 طفل لكل سيدة في عام 2014 إلى 2.8 طفل لكل سيدة في عام 2021، ثم إلى 2.41 طفل لكل سيدة عام 2024، وفقاً لبيانات مركز المعلومات بوزارة الصحة.
ويرجع هذا، بحسب الدكتورة سدرة، إلى تفاوت نسب التعليم وتغليب المجتمعات في الصعيد للعادات والتقاليد والأعراف الموروثة حول الأبناء وأنهم السند والعزوة، على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. لكنها أشارت إلى أن نسبة التعليم في الريف أصبحت كبيرة خاصة بين النساء.
فضلاً عن الاختلاف الملحوظ ما بين محافظات الوجه البحري والقاهرة والصعيد فيما يتعلق بعمل المرأة وتمكينها اقتصادياً واجتماعياً، فما زالت نسب وأعداد المرأة العاملة قليلة في الصعيد مقارنة ببقية المحافظات، وهو ما يجعلها تركز على إنجاب الأطفال، بحسب الدكتورة سدرة.
الدين والسكان
لعبت التوعية الدينية دوراً كبيراً في استراتيجية الحكومة المصرية لمواجهة الزيادة السكانية، وكان لمؤسسة الأزهر ودعاة وزارة الأوقاف وحتى الكنائس دور مهم في التعامل مع هذه القضية وتنظيم حملات توعية في المساجد والكنائس والوحدات الصحية استهدفت النساء بصورة أساسية، وهو ما ساعد في تحقيق نتائج إيجابية خاصة بين النساء.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء المصري، فإن الولادات انخفضت إلى 18.5 ولادة لكل 1000 نسمة في عام 2024، مقارنة بحوالي 19.4 ولادة لكل 1000 نسمة في 2023.
كما تراجع النمو السكاني الطبيعي، وهو الفرق بين الولادات والوفيات، بنسبة 7في المئة ليصل إلى 1.359 مليون نسمة في 2024 مقابل 1.462 مليون في 2023.
الشيخ محمد دحروج، الداعية الإسلامي بوزارة الأوقاف المصرية وأحد خريجي البرنامج التدريبي لوزارة الأوقاف (قادة فكر)، يحكي لنا عن دوره في بعض هذه الحملات التي نظمتها محافظة كفر الشيخ لتوعية النساء بخطورة الزيادة السكانية وكثرة الإنجاب، وضرورة تنظيم النسل.
ويقول إن هناك توجيهات من وزارة الأوقاف بالحديث المستمر مع المواطنين عن نشر الوعي الصحيح بقضايا الأسرة، وأهمية تنظيم النسل بما يتوافق مع مقاصد الشريعة، سواء أثناء خطبة الجمعة الأسبوعية، أو حتى في الدروس التي يتم تنظيمها.
وأكد على وجود استجابة كبيرة من المواطنين لهذه الدروس والمحاضرات، خاصة تلك التي تجري ضمن حملات (جلسات الدوار) والتي تعمل ضمن المبادرة الرئاسية (حياة كريمة).
وأكدت خلود لبي بي سي أنها وصديقاتها حضرن الكثير من الدروس الدينية للمقبلات على الزواج، وسألت الشيخ عن رغبتها في تأجيل الإنجاب والاكتفاء بطفلين فقط، فأكد لها أن هذا الأمر “مشروع وجائز ولا يتعارض مع الشرع.”
ويؤكد الشيخ دحروج أن هناك فرقاً بين تنظيم الأسرة “المشروع” وتحديد النسل “المرفوض”، وبيّن أن التنظيم يهدف إلى الحفاظ على صحة الأم والأسرة والمجتمع، مشيراً إلى أنهم في وزارة الأوقاف يعملون على “محاربة المفاهيم المغلوطة والشائعات المرتبطة بمسائل الإنجاب.”
وأعدت وزارة الأوقاف المصرية واعظات للقاء النساء مباشرة، والتحدث معهن عن التربية السليمة، ورعاية الأبناء، وأثر الإنجاب غير المنظم على الأسرة، وتناول قضايا مثل زواج القاصرات، والطلاق المبكر، والعنف الأسري، وعلاقتها بالجهل وقلة الوعي السكاني.
وفي الكنائس، تجري أيضاً جلسات ودروس توعية مستمرة للمسيحيين في مصر لشرح أهداف الاستراتيجية المصرية للسكان.
وقرر أسامة عدم إنجاب المزيد من الأطفال والاكتفاء بثلاثة فقط، وأضاف: “الحياة صعبة على الجميع والأهم عندي تعليم أبنائي بشكل جيد، والتعليم الخاص أصبح مكلفاً، وأسعى لضمان دخولهم مدارس خاصة جيدة مهما كلف الأمر.”