جناية الدوبامين: كيف يقود الملل غير المدار إلى العنف والإدمان؟

  • جناية الدوبامين: كيف تستغل الديناميات النفسية والاجتماعية فشلنا في إدارة الملل؟

في نوفمبر الفائت، تناقلت وسائل الإعلام خبرا صادما عن إعادة فتح تحقيق جنائي في إيطاليا حول ما سمي بـ«سياحة القتل» خلال حصار سراييفو في التسعينيات، حين دفع أجانب مبالغ ضخمة مقابل فرصة إطلاق النار على مدنيين من تلال المدينة المحاصرة، من أجل التسلية وتجربة «متعة القنص الحقيقية»، في واحدة من أبشع جرائم الحروب الأوروبية الحديثة.

وتكشف تفاصيل التحقيق أن هذه الجرائم لم تكن مدفوعة بالكراهية القومية أو التعصب الديني أو الدافع الأيديولوجي، رغم صعوبة نفي حضور بعض هذه العوامل، بل كان أساسها أبسط وأخطر: محاولة مرضية للهروب من الملل، وإثارة هرمون الدوبامين بأي ثمن.

هذا المشهد المرعب لا يختلف كثيرا عما يحدث اليوم في غزة أو دارفور، مع فارق أننا أمام قتلة لم يحملوا قضية، ولم يقاتلوا من أجل وطن أو عقيدة، أو حتى من أجل المال، بل أمام بشر عاديين دفعوا أموالهم ليملؤوا فراغهم الداخلي بإطلاق الرصاص على أجساد بريئة. ملّوا من القتل الافتراضي في ألعاب الفيديو، فبحثوا عن «نسخة حقيقية» للعبة.

وهنا تتجلى أخطر صور جناية الدوبامين، عندما يتحول البحث عن النشوة إلى آلة قتل، ويتحول الملل إلى محرض على الجريمة. سؤال مخيف يفرض نفسه: ماذا لو كان الملل أحد المحركات الخفية لأبشع أشكال العنف البشري؟

وإذا كان بعضهم يقتل الآخرين هربا من الملل، أفلا نمارس نحن قتلا من نوع آخر؟ نقتل أنفسنا وأوقاتنا وحيواتنا، بإهدارها أمام الشاشات الذكية، بحثا عن تسلية فارغة من المعنى تمنحنا نشوات قصيرة بلا قيمة.

من إدمان المراهقين على الشاشات الذكية وألعاب العنف والمواقع الإباحية، إلى مشاركة ناشطين ومؤثرين في خطاب الكراهية والتحريض، مرورا بانخراط بعض الدعاة في التكفير والتشهير، وصولا إلى تورط سياسيين في جرائم إبادة جماعية أو انخراط أفراد عاديين في عصابات إرهابية خطيرة. تبدو هذه الظواهر متباعدة، لكنها تتقاطع في خيط واحد خفي: الفشل في الإجابة عن سؤال واحد، كيف أتخلص من الملل؟

إعلان

قد تبدو هذه الفرضية غريبة، إذا لم نلاحظ أن كثيرا من قراراتنا الفردية والجماعية تبدأ من لحظة ضجر صغيرة، نبحث فيها عن محفز سريع، أو عن نشوة مؤقتة، أو عن إحساس بالمعنى، حتى لو كان زائفا.

شهد التاريخ قصصا مروعة، أسطورية وحقيقية، حول كيفية تحول الخطأ في الإجابة عن سؤال التخلص من الملل إلى جرائم وحشية، من قصص شهرزاد وألف ليلة وليلة، إلى ما يروى عن الرجل النبيل في العصور الأوروبية الوسطى

الملل: النعمة التي تتحول إلى نقمة

لا يعني ذلك أن الشعور بالملل خطيئة أو شرا في ذاته، بل هو نعمة إلهية أودعت في الإنسان لتكون محركا للعمل والإبداع والتغيير المرتبط بالمعنى. لكن هذه النعمة تتحول إلى نقمة عندما نفشل في الإجابة عن سؤال جوهري: كيف نتخلص من الملل بطريقة مثمرة؟

في هذا السياق، يصبح من المهم التفريق بين نوعين من الملل. أولهما «ملل الفراغ الداخلي»، الذي ينشأ عن غياب الهدف أو التنظيم الذاتي، ويقود صاحبه إلى الملهيات السريعة والإدمان الرقمي. وثانيهما «ملل الإحباط الواقعي»، الناتج عن تراكم الخيبات والقيود الاجتماعية والاقتصادية، فيفقد الإنسان الدافع ويبحث عن الإثارة خارج ذاته.

الملل الأول يولد تيها وجوديا يقود إلى اللهو والإدمان، أما الثاني فيصنع احتقانا نفسيا قد يتحول إلى غضب، أو حتى إلى تطرف وعنف.

إن الفشل في التعامل مع هذا الشعور في حالتيه يجعل الإنسان ينجرف نحو المسكنات السريعة بدلا من مواجهة أصل المشكلة. وفي كلا النوعين، يصبح البحث عن محفزات سريعة ومكافآت لحظية لتسكين شعور الفراغ أو الإحباط هو الغاية، وغالبا ما تكون هذه المحفزات سهلة لكنها مدمرة، لأنها تولد شعورا زائفا بالرضا وتقتل الصبر والمثابرة.

العقل البشري، في سعيه لإنهاء حالة الضجر المؤلمة، يبحث عن مكافأة فورية من «هرمون الدوبامين». ومن هنا تظهر مظاهر الانجراف المختلفة، بدءا من الانغماس في الشاشات وألعاب العنف والمقاطع السريعة، مرورا بالانخراط في خطاب الكراهية أو نشر المحتوى المضلل، وصولا إلى سلوكيات أكثر خطورة وأكثر «جاذبية للعين».

وتشمل هذه السلوكيات السعي للشهرة عبر المغامرات الخطرة، ونبش الفضائح الشخصية لجذب الانتباه، حتى إن الأمر يصل إلى تسريب بعض المشهورين لفضائحهم بأنفسهم، وتبادل الردح والنميمة في الوسط الثقافي الذي يفترض أن يكون فضاء للتفكير والحوار.

حتى اللغة النزقة في منشورات فيسبوك ووسائل التواصل الأخرى أصبحت وسيلة لتحقيق مكافآت فورية: إعجابات ومشاركات وتصعيدا في الظهور، رغم ما تحتويه من إساءات وسخرية وتنمر بالآخرين.

ولا يمكن فهم انتشار هذه المظاهر الحديثة دون الإشارة إلى طبيعة منصات التواصل الاجتماعي القائمة على الربح، التي تكافئ المحتوى المثير والمستفز وتزيده انتشارا، مما يشجع على الإجابات الخاطئة لسؤال كيفية التخلص من الملل، ويعمق الميل إلى الإثارة السريعة بدلا من الصبر والعمل المنتج.

يغدو غياب العدالة والفرص دافعا للشباب للبحث عن الثراء السريع أو الإثارة لتعويض ملل البطالة والفقر، بينما يحول الصراع السياسي الملل الجماهيري إلى حروب أو إثارة، ويجعل من الخطاب الديني المتشدد وسيلة لجذب الانتباه بدل الإصلاح الصبور

الملل كمدخل: استغلال نقطة الضعف

لقد شهد التاريخ قصصا مروعة، أسطورية وحقيقية، حول كيفية تحول الخطأ في الإجابة عن سؤال التخلص من الملل إلى جرائم وحشية، من قصص شهرزاد وألف ليلة وليلة، إلى ما يروى عن الرجل النبيل في العصور الأوروبية الوسطى، الذي كان يطلب من القن أن يأتي بأحد أولاده، ويجعله مرمى لسهامه بحثا عن التسلية.

وعندما يكتمل شعوره بالمتعة أو الإثارة، يطلب من القن أن يأتي بولد آخر، فيفقد الملل أي ضابط أخلاقي أو إنساني. يوضح هذا المثال أن الملل، على الرغم من بساطته الظاهرية، قد يكون محفزا لأفظع الجرائم عندما يفتقد إلى الضوابط الأخلاقية.

إعلان

إن الملل لا يصنع الفشل أو الجريمة بمفرده، لكنه مدخل يسهل مرور هذه السلوكيات الضارة. فالنفس في حالة الضجر تشبه وعاء فارغا، يملؤه أي محتوى، مهما كان هداما، ليصبح نقطة ضعف تستغلها الديناميات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.

فعلى سبيل المثال، يغدو غياب العدالة والفرص دافعا للشباب للبحث عن الثراء السريع أو الإثارة لتعويض ملل البطالة والفقر، بينما يحول الصراع السياسي الملل الجماهيري إلى حروب أو إثارة، ويجعل من الخطاب الديني المتشدد وسيلة لجذب الانتباه بدل الإصلاح الصبور، ولا سيما عندما تمتزج هذه الديناميات مع منطق الربح الذي تحمله منصات التواصل.

من خلال التربية الإعلامية والمعلوماتية، يمكن للفرد أن يدير علاقته بالشاشات والمحتوى بوعي، فيميز المفيد من المضر، ويبني القدرة على التفكير النقدي قبل المشاركة والتفاعل

التربية على إدارة الملل: الحل المستدام

الجناية الكبرى ليست في الشعور بالملل ذاته، بل في الفشل التربوي في تعلم كيفية التعامل معه. فنحن نعلم الإنتاج والعمل، لكننا نادرا ما نعلم أبناءنا فن الانتظار والتأمل وتحويل الفراغ إلى طاقة إبداعية.

يجب أن تركز التربية على إدارة الملل بوصفه إشارة إلى التغيير، وتدريب النفس على الصبر وتأجيل المكافآت الفورية، وتحويل هذا الشعور إلى رحم للإبداع، وربطه بالمعنى لا بالإثارة اللحظية.

ومن خلال التربية الإعلامية والمعلوماتية، يمكن للفرد أن يدير علاقته بالشاشات والمحتوى بوعي، فيميز المفيد من المضر، ويبني القدرة على التفكير النقدي قبل المشاركة والتفاعل، ما يحول البيئة الرقمية من مصدر للملل والانجراف إلى فضاء للنمو والإبداع والتواصل المسؤول.

من الجناية إلى الارتقاء الإنساني

إن معالجة الإخفاقات الكبرى تبدأ من أصغر المشاعر وأكثرها بساطة: الملل. وبدلا من الهروب منه عبر الطرق السريعة والمدمرة، يجب أن نتعلم كيف نحوله إلى أداة للتفكير والعمل المنتج.

وعندما ننجح في تربية جيل يعرف كيف يحول فراغه إلى تفكير، وضجره إلى إبداع، يصبح الملل محفزا للتطور والارتقاء، ويحول الجناية في حق الذات إلى نعمة حقيقية للتطوير والارتقاء الإنساني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

 

المصدر: الجزيرة