تُعتبر المرأة الأكثر نفوذاً في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، والزوجة الحبيبة لسليمان القانوني، أحد أقوى الحكام في التاريخ، وشخصية غامضة لا يزال إرثها يُكتب ويُعاد تفسيره، وهي تُبهر عشاق التاريخ حتى بعد أكثر من أربعة قرون من وفاتها في عام 1558.
ولم تعد السلطانة خُرم سلطان، المعروفة أيضاً باسم روكسيلانا، مجرد جارية أو زوجة بل خاضت رحلة استثنائية من العبودية إلى قمة النفوذ الإمبراطوري، لتصبح شخصيةً أعادت تشكيل المشهد السياسي للبلاط العثماني في القرن السادس عشر.
ومع ذلك، وبعد قرون، لا يزال لغز أصولها يثير الجدل، فهل كانت أسيرة من أوكرانيا المعاصرة، أم ابنة كاهن أرثوذكسي، أم كما تشير نظرية غير متوقعة بأنها امرأة إيطالية نبيلة اختطفها القراصنة؟
ومع ذلك، تُشير إليها الوثائق العثمانية الرسمية باسم هاسكي خُرم سلطان، و”خُرم” تعني الفرحة بالفارسية، و”هاسكي” لقب فخري يُمنح لأم طفل السلطان.
وتشير سجلات إلى أنها أُسرت على يد غزاة من تتار القرم في روهاتين، وهي بلدة كانت آنذاك جزءًا من المملكة البولندية وتقع حالياً في غرب أوكرانيا، وذلك وفقاً للأستاذ الجامعي التركي فريدون إميسين.
ثم بِيعَت كجارية، وجُلبت إلى الإمبراطورية العثمانية في أوائل مراهقتها، ووُهِبَت لوالدة الأمير سليمان، المعروف لاحقاً باسم سليمان القانوني، وذلك بحسب الأستاذة الجامعية التركية زينب تاريم.
ويُرجح المؤرخون انضمامها إلى الحريم بحلول عام 1520، استناداً إلى أن ابنهما الأول، الأمير محمد، ولد في العام التالي.
المنعطف الإيطالي
وعلى الرغم من الإجماع الواسع على جذورها الروثينية، فإنه لا تزال هناك نظريات بديلة حول خلفية خُرم.
ويأتي أحد الادعاءات المثيرة للجدل بشكل خاص من الباحث الدكتور رينالدو مرمرا، الذي يقول إنه اكتشف مخطوطة في أرشيف الفاتيكان تشير إلى أن خُرم كانت في الواقع امرأة إيطالية نبيلة تُدعى مارغريتا من عائلة مارسيغلي في سيينا.
ويقول الباحث مرمرا إنه وفقاً لهذه الوثيقة فقد أُسرت هي وشقيقها على يد قراصنة وبِيعا كعبد وجارية في البلاط العثماني.
ومع ذلك، لا يزال المؤرخون مُتشككين في ذلك، وتُحذّر البروفيسورة تاريم من أن صحة هذا الادعاء تتطلب إثباتات أكثر بكثير.
وتُشير إلى غياب أي ذكر في سجلات سفراء البندقية المُفصّلة للغاية، وهي من أكثر مصادر شائعات البلاط والشؤون الدبلوماسية موثوقية في تلك الفترة.
وتقول: “لو كان هناك شيء من هذا القبيل، لكانت السجلات قد أخبرتنا عنه، وكنا عرفنا عن هذا الأمر قبل ذلك بكثير”.
“الساحرة الروسية”
ويتفاقم هذا الالتباس بسبب كيفية الإشارة إلى خُرم سلطان في المصادر المختلفة.
فقد أطلقت عليها وثائق وأشعار من العصر العثماني أحيانًا لقب “الساحرة الروسية”، وهو لقب مهين استخدمه منتقدوها، لا سيما بعد إعدام ابن سليمان الأكبر، الأمير مصطفى، المولود من امرأة أخرى، والأول في ترتيب ولاية العرش العثماني.
ويوضح البروفيسور إميسين أن مصطلح “روس” في السياق العثماني لم يكن حكراً على الروس كعرق، بل كان تسمية جغرافية تُطلق على أي شخص من الشمال، بمن فيهم الأوكرانيون والبيلاروسيون المعاصرون.
كما أشار الرحالة الغربيون ودبلوماسيو البندقية في ذلك الوقت إلى خُرم باعتبارها روسية، لكن الباحثين يجادلون بأن هذا كان انعكاسًا لأصولها الجغرافية أكثر من انتمائها العرقي.
ويقول البروفيسور إميسين: “في ذلك الوقت، لم تكن روسيا موجودة ضمن حدود اليوم، وما يقصدونه بالروسية في مراسلات تلك الفترة هو الجغرافيا الروسية”.
ويقول فيتالي تشيرفونينكو من بي بي سي نيوز الأوكرانية: “في القرن السادس عشر، سُميت الأراضي ذات السكان الأوكرانيين في بولندا بمقاطعة روسك، وكانت روهاتين جزءًا منها”.
ويضيف قائلاً: “كان الأوكرانيون في ذلك الوقت يُطلق عليهم اسم روسين، لكن هذا لم يكن له أي صلة بروسيا”.
وفي السنوات الأخيرة، اكتسبت هوية السلطانة خُرم أهمية سياسية متجددة، لا سيما في أوكرانيا، حيث يُحتفى بها كشخصية وطنية.
وتنتصب تماثيل تكريماً لها في مسقط رأسها المزعوم، روهاتين، ويحمل مسجد في مدينة ماريوبول، التي تحتلها روسيا حالياً، اسمها إلى جانب اسم السلطان سليمان القانوني.
ويُبرز النقش المُحدّث الآن تراثها الأوكراني، مُؤكدًا على استمرار إرثها في سياق الجغرافيا السياسية الحديثة.
الأعمال الخيرية
ولقد امتد تأثير خُرم إلى ما هو أبعد من جدران الحريم، ولكن لعلّ أعمالها الخيرية هي الأبقى.
فقد أنشأت مساجد ومطابخ خيرية ومؤسسات خيرية في إسطنبول والقدس، اللتين كانتا آنذاك جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ولا يزال حيّ هاسكي في إسطنبول يحمل اسمها حتى اليوم.
ووفقاً للسجلات التاريخية، توفيت السلطانة خُرم في إسطنبول في 15 أبريل/نيسان من عام 1558، وكانت وفاتها طبيعية. وقد دفن جثمانها في جامع السليمانية، ولاحقًا، تم تشييد ضريح في مكان قبرها بأمر من السلطان سليمان القانوني نفسه.