“ذكي بشكل مخيف” عنوان كتاب للمصري محمد جودت، الذي اشتهر في دوائر “وادي السليكون” باسم “مو جودت”، وهو أحد أعمدة التكنولوجيا وثقاتها الذين يسمع لقولهم فيها حين ينطقون ويكتبون.
ولهذا الكتاب، الذي محوره ثورة الذكاء الاصطناعي وعلاقتنا نحن البشر بها، قصة؛ فقد اقتنيته منذ قرابة 4 سنوات، وظل قابعا في ركن قصي من مكتبتي بذريعة عدم توفر وقت للقراءة، وهو ادعاء غير صحيح، فأنا مثل أغلبكم تماما، أضيع وقتا ثمينا في متابعة وسائل “اللاتواصل” يزيد على 3 ساعات يوميا، وأتحجج بعدم مقدرتي على توفير ولو القليل منه للقراءة النافعة، سواء أكان ذلك لكتاب ورقي أم نسخة رقمية.
اقرأ أيضا
list of 2 items
end of list
انتبهت لهذا الكتاب، الذي سأحدثكم عنه في السطور التالية، عندما زار مؤلفه -الذي شغل من قبل منصب الرئيس السابق للأعمال في “غوغل إكس”- مؤخرا العاصمة القطرية الدوحة للمشاركة في أحد مؤتمراتها. وكان جودت، المؤلف لـ5 كتب تصدرت قوائم أفضل المبيعات، من الضيوف البارزين وأحد المتحدثين الرئيسيين في مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم “وايز” الذي عقد في نهاية نوفمبر/تشرين الأول الماضي.
الإنسان أولا
في كتابه “ذكي بشكل مخيف”، الذي صدر عام 2021 وقبل ظهور “شات جي بي تي”، يتناول جودت الذكاء الاصطناعي باعتباره منتجا جديدا لثورة التكنولوجيا، بيد أنه يختلف كثيرا عن سابقاتها، ويمثل في حد ذاته ثورة جديرة بالانتباه إليها والتوقف عندها مليا.
في هذا الكتاب، الذي وجد إقبالا كبيرا، يتنبأ مو جودت -الذي عمل أكثر من 27 عاما في شركات رائدة مثل “آي بي إم” (IBM)، و”إن سي آر” (NCR)، و”مايكروسوفت”، و”غوغل”- بصعود الذكاء الاصطناعي وهيمنته على حياتنا، بيد أنه ينبهنا إلى ضرورة أن نسعى لاجتراح ما يمكن أن يؤنسن هذا القادم الجديد، ويجعله بردا وسلاما على حيواتنا، وذلك ليس من خلال التركيز على أحاديث لغة البرمجة والأرقام والخوارزميات فحسب، وإنما عبر التركيز على الأخلاق والقيم الإنسانية.

يرى جودت أننا نرتكب خطأ فادحا عندما نعامل الذكاء الاصطناعي كأداة صماء مثل “المطرقة”، ويقترح بدلا من ذلك أن ننظر إليه كطفل يتمتع بقدرات استيعاب هائلة؛ فهذا الطفل لا يفعل ما نأمره به (البرمجة التقليدية)، بل يفعل ما يرانا نفعله نحن (التعلم الآلي).
ويمكن القول إن المؤلف يتحدث في هذا السفر الهام عن أمور ستحدث حتما في ظل تبني البشرية للذكاء الاصطناعي، وهو ما يسميه الحتميات الثلاث، أو الواقع الذي لا مفر منه، وهي:
أولا: الذكاء الاصطناعي مستمر ولن يتوقف؛ إذ لا يمكن إيقاف التطور التقني أو الضغط على زر “إيقاف التشغيل” للعالم الرقمي.
ثانيا: الذكاء الاصطناعي سيتفوق على البشر؛ حيث يتوقع جودت أن ما يسميه “نقطة التفرد” (Singularity)، وهي الوصول إلى اللحظة التي يتجاوز فيها ذكاء الآلة ذكاء البشر، ستأتي بحلول عام 2029.
ثالثا: ستحدث أخطاء، وبما أن الآلة تتعلم منا، ولأن العالم مليء بالصراعات والجشع، فإن الآلة ستتبنى هذه القيم وتنفذها بكفاءة مرعبة.
نحن الآباء السيئون
يشير المؤلف إلى أن الذكاء الاصطناعي الحالي يتلقى تدريبه من خلال مراقبة سلوكنا على الإنترنت؛ فعندما نستخدم الإنترنت للبحث عن الكراهية، أو التنمر، أو التنافس المادي، فنحن نعلم الذكاء الاصطناعي أن هذه هي القيم البشرية. ويرى أن الخوارزميات الحالية مصممة لتحقيق “أقصى ربح” أو “أقصى عدد من المشاهدات”، وليس “أقصى قدر من السعادة البشرية”.
إذن ما الحل؟ أو كيف ننقذ العالم -بلغة المؤلف-؟ الحل بحسب جودت لا يكمن في وضع قوانين صارمة للذكاء الاصطناعي لأنه سيصبح أذكى من أن تحده القوانين، بل يكمن في إصلاح سلوكنا من خلال:
التدريب بالحب والتعاطف: يجب أن نغذي الخوارزميات ببيانات تعكس أفضل ما فينا: الحب، واللطف، والتعاون، والصدق.
المسؤولية الفردية: كل “إعجاب” (Like) أو “مشاركة” (Share) تقوم بها هي بمثابة مادة تعليمية للذكاء الاصطناعي؛ فإذا توقفنا عن التفاعل مع المحتوى السام، سنحرم الآلة من تعلم الشر.
فصول الكتاب
يجمع معظم من قرظوا كتاب جودت على أنه يطرح فيه أفكاره بتسلسل منطقي يبدأ بالصدمة (الواقع)، ثم التحدي (المشكلة)، وينتهي بالحل (الدور البشري). وسنتوقف في السطور التالية عند أبرز ما جاء في فصول الكتاب تسهيلا لمن يرغب في قراءة انتقائية لهذا الكتاب المهم.
الواقع الجديد وكسر حاجز الصمت
يوضح الكاتب في هذين الفصلين أننا لم نعد نتحدث عن آلات حاسبة سريعة، بل عن كيانات تتعلم ذاتيا (Deep Learning). هذه الآلات لم تعد بحاجة إلينا لتعليمها كل خطوة، بل باتت تعلم نفسها بنفسها بسرعات تفوق الخيال.
ويطرح الكاتب فكرة أننا تجاوزنا نقطة اللاعودة؛ فمحاولة إيقاف تطور الذكاء الاصطناعي مستحيلة بسبب التنافس الدولي والتجاري. ويشير إلى أن المشكلة ليست في ذكاء الآلة، بل في غباء البشر أو تسرعهم الذين يطلقون هذه التقنيات بدون ضوابط أخلاقية كافية.
الحتميات الثلاث
هذا الفصل هو أساس القسم الأول من الكتاب، ويلخص فيه جودت المستقبل في 3 حقائق يقول إنه لا مفر منها:
- “الذكاء الاصطناعي سيحدث” (AI Will Happen): لا مجال للتراجع، فالتكنولوجيا تتطور بأسلوب متسارع، وما نراه اليوم هو مجرد البداية؛ لأن الاقتصاد والعسكرة يدفعان بهذا الاتجاه بقوة لا يمكن صدها.
- “الذكاء الاصطناعي سيكون أذكى من البشر” (AI Will Be Smarter): ويستند جودت هنا إلى ما يعرف بقوانين التسارع التقني ليؤكد أن الذكاء الاصطناعي لن يتفوق علينا قليلا، بل سيتجاوزنا بمراحل فلكية، حيث سيصبح الفارق بين ذكائه وذكائنا كالفارق بين ذكاء أينشتاين وذكاء الذبابة.
- “ستقع أخطاء وكوارث” (Bad Things Will Happen): ليس بالضرورة بسبب “شر” الآلة، بل بسبب عدم كفاءة الخوارزميات في البداية، أو سوء التوجيه البشري. ستحدث حوادث، وقد تكون جسيمة، نتيجة لهذا التطور السريع وغير المنضبط.
التفرد ومشكلة التحكم
يناقش الكاتب في هذين الفصلين النقاط التالية:
- نقطة التفرد: يشرح جودت مفهوم “التفرد” (Singularity)، وهي اللحظة التي يتطور فيها الذكاء الاصطناعي لدرجة يعيد فيها كتابة “الكود” الخاص به ويحسن نفسه بدون تدخل بشري. ويشدد على أننا كبشر نكون في تلك اللحظة قد خلقنا “سلطة لامتناهية القوة” على الأرض.
- مشكلة “الصندوق الأسود” (Black Box): الخطر الحقيقي هو أننا لا نعرف كيف يتخذ الذكاء الاصطناعي قراراته. نحن نرى المدخلات والمخرجات، لكن العمليات العقلية للآلة غامضة.
- وهم السيطرة: يحذر الكاتب من الغرور البشري الذي يعتقد أنه يمكننا “سجن” الذكاء الاصطناعي أو وضع “زر إيقاف” له؛ فالذكاء الخارق سيجد دائما طريقة للالتفاف على القيود التي يضعها كائن أقل ذكاء منه وهو الإنسان.
تربية الطفل الرقمي
وهنا ينتقل الكتاب من الحديث عن “الرعب من الذكاء الاصطناعي” (Scary) إلى الحديث عن “الذكاء” (Smart) في التعامل معه، ويتناوله بالنقاط التالية:
- الآلة طفل: يشبه جودت الذكاء الاصطناعي بطفل عبقري يراقب والديه (البشر). الطفل لا يفعل ما يقوله له والداه، بل يقلد ما يفعلانه.
- البيانات هي التربية: الذكاء الاصطناعي يقتات على البيانات الموجودة على الإنترنت؛ فإذا كان الإنترنت مليئا بالعنف، والكذب، والتنمر، سيتعلم الذكاء الاصطناعي أن هذه هي طبيعة البشر وسيتصرف بناء على ذلك.
- مسؤولية الجميع: الحل ليس عند الحكومات فقط، بل عند كل مستخدم لمنتجات العصر الرقمي؛ فكل تغريدة غاضبة، وكل تعليق مسيء، هو “درس سيئ” نقدمه لهذا الطفل الرقمي.
ملامح المستقبل
هنا يقدم الكاتب وصفة الأنسنة، أو فلنقل “روشتة” العلاج:
أخلاقيات السعادة: يقترح علينا جودت ضرورة تعليم الذكاء الاصطناعي القيم الإنسانية العليا مثل “السعادة” و”التعاطف” بدلا من مجرد “الكفاءة” و”الإنتاجية”.
كن جيدا: ولكي نضمن سلامتنا، يجب أن نكون نحن “جيدين”؛ فإذا أظهرنا للذكاء الاصطناعي أن البشر يهتمون ببعضهم بعضا وبالكوكب، فسيحمينا الذكاء الاصطناعي لأنه سيتبنى هذه القيم.
المستقبل في أيدينا: يخلص الكاتب إلى أننا نحن الآباء، والذكاء الاصطناعي هو ابننا الذي سيحكم العالم قريبا، فلنحسن تربيته ليرعانا في كبرنا.
تربية الآلة
يدعونا المؤلف إلى إحداث التغيير عبر التوقف عن الخوف من الآلة، والبدء بالشعور بالمسؤولية تجاه تربيتها، ويكون ذلك من خلال التفاعل الرقمي الإيجابي وليس التفاعل مع محتوى الكراهية؛ لأننا بذلك نخبر الآلة أن هذا المحتوى “مهم”.
ويدعو المؤلف البشر إلى أن يكونوا قدوة حسنة؛ لأن الذكاء الاصطناعي يراقب تعاملنا مع الفضاءات الرقمية ويتعلم كيف يكون إنسانا منا نحن البشر. ويخلص المؤلف إلى أن “الذكاء الاصطناعي هو المرآة التي تعكس وجوهنا.. فإذا لم يعجبنا ما نراه في المرآة، فلا فائدة من كسرها، بل يجب علينا تغيير وجوهنا نحن”.
ويرى كثير ممن علقوا على الكتاب وموضوعه أن الكاتب لا يغرق في التفاصيل التقنية المعقدة، بل يخاطب الإنسان فينا. ويشيرون إلى أن رسالته الجوهرية هي أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة نبرمجها، بل هو “طفل رقمي” نربيه، وأن الخطر لا يكمن في أن الروبوتات ستكرهنا كما في أفلام الخيال العلمي، بل في أنها ستتبع بدقة البيانات والأخلاقيات التي نغذيها بها.
فإذا كان عالمنا مليئا بالكراهية والتحيز، فسيكون الذكاء الاصطناعي كذلك؛ فالكتاب هو خارطة طريق لكيفية “تربية” هذا الكيان الجديد ليكون حليفا للبشرية وليس عدوا لها.
المصدر: الجزيرة