من ألزهايمر إلى السرطان، قد يحتوي شمع الأذن على مؤشرات قيّمة لصحة الإنسان، وهو ما دفع العلماء إلى تحليل تركيبه الكيميائي، أملاً في إيجاد طرق جديدة لتشخيص الأمراض.
هذه المادة اللزجة التي يتباين لونها بين الأصفر والبني، ربما تكون آخر ما ترغب في الحديث عنه خلال حوار لطيف. ومع ذلك، فإن شمع الأذن يحظى باهتمام متزايد بين العلماء الذين يرغبون في استخدامه للكشف عن معلومات أكثر حول إصابة صاحبه بأمراض القلب والسرطان واضطرابات التمثيل الغذائي كداء السكري من النوع الثاني.
والاسم الصحيح لهذه المادة اللزجة هو الصِّملاخ، وهو مزيج من إفرازات نوعين من الغدد التي تبطّن قناة الأذن الخارجية: الغدد الصِملاخية والغدد الدهنية.
والمادة اللزجة الناتجة، تختلط بالشعر وقشور الجلد الميت وبقايا الجسم الأخرى، إلى أن تصل إلى القوام الشمعي الذي نعرفه جميعاً ونبذل قصارى جهدنا للتخلص منه.
ومع ذلك، فإن شمع الأذن يُعد أيضاً بمثابة مصيَدة فعالة، تمنع البكتيريا والفطريات وغيرها من الكائنات غير المرغوب فيها كالحشرات، من دخول إلى جسدنا.
أما سكان شرق آسيا لديهم شمع أذن جاف غير لزج، رمادي اللون.
ويُطلق على الجين المسؤول عن إنتاج شمع الأذن الرطب أو الجاف اسم ABCC11، وهو المسؤول أيضاً عن رائحة الإبطين.
ومع ذلك، ربما تكون أهم الاكتشافات المتعلقة بشمع الأذن مرتبطة بما يمكن أن تكشفه تلك المادة اللزجة في آذاننا عن حالتنا الصحية.
أدلة مهمة
في عام 1971، توصل نيكولاس إل. بيتراكيس، أستاذ الطب في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، إلى أن النساء القوقازيات والألمانيات والأفريقيات-الأمريكيات في الولايات المتحدة الأمريكية، من ذوات “شمع الأذن الرطب”، لديهن احتمال أعلى للوفاة بسرطان الثدي بنحو أربعة أضعاف اليابانيات والتايوانيات من ذوات “شمع الأذن الجاف”.
ووجد الباحثون أن اليابانيات المصابات بسرطان الثدي أكثر عرضة بنسبة تصل إلى 77 في المئة لامتلاك جين شمع الأذن الرطب مقارنةً بالمتطوعات اللائي لا يعانين من المرض.
ومع ذلك، لا تزال هذه النتيجة مثيرة للجدل، كما لم تتوصل دراسات واسعة النطاق في ألمانيا وأستراليا وإيطاليا إلى وجود أي فرق في خطر الإصابة بسرطان الثدي بين ذوات شمع الأذن الرطب والجاف، على الرغم من أن عدد ذوات شمع الأذن الجاف في هذه البلدان قليل للغاية.
والأمر الأوضح هنا كدليل، هو الصلة بين بعض الأمراض الجهازية والمواد الموجودة في شمع الأذن.
لنأخذ على سبيل المثال داء البول القَيْقبي، وهو اضطراب وراثي نادر يمنع الجسم من التخلص من بعض الأحماض الأمينية الموجودة في أطعمة كاللحوم، ويؤدي إلى تراكم المواد الضارة في الدم والبول، ما يُعطي البول رائحة شراب القيقب (ومن هنا جاءت تسمية الداء).
هذا يعني أنه يمكن تشخيص الحالة بمجرد مسح أذن المُصاب، وهي عملية أبسط وأرخص بكثير من إجراء فحص جيني مع أن هذا الفحص قد لا يكون ضرورياً.
وتقول رابي آن موسى، الكيميائية البيئية في جامعة ولاية لويزيانا: “إن رائحة شمع الأذن [في هذه الحالة] تشبه رائحة شراب القيقب، لذا، ففي غضون 12 ساعة من ولادة الطفل، عندما تشم هذه الرائحة المميزة الجميلة، فهذا يعني أن لديه خللاً فطرياً في عملية الأيض”.
كما يمكن أحياناً اكتشاف إصابتك بكوفيد-19 من خلال شمع الأذن، ويمكن لشمع أذن المرء أن يخبرك أيضاً إن كان مصاباً بداء السكري من النوع الأول أو الثاني.
هناك أيضاً مرض (مِنيير)، وهو مرض يصيب الأذن الداخلية ويُسبب الدوار وفقدان السمع. تقول عنه رابي آن موسى: “قد تكون أعراضه مُنهكة للغاية، كالغثيان الشديد والدوار. ويُغدو من المستحيل قيادة السيارة أو الذهاب إلى أي مكان برفقة شخص آخر. ويُصاب المريض في النهاية بفقدان كامل للسمع بالأذن المصابة”.
وقد قادت موسى مؤخراً فريقاً اكتشف أن شمع أذن مرضى (منيير) يحتوي على مستويات أقل من ثلاثة أحماض دهنية، مقارنةً بالمجموعة غير المصابة.
وهذه هي المرة الأولى التي يُعثر فيها على مؤشر حيوي لهذه الحالة، والتي عادةً ما تُشخص باستبعاد أي مرض آخر، وهي عملية قد تستغرق سنوات.
وتعلق موسى قائلة: “ينصب اهتمامنا بشمع الأذن كباحثين في مجال الأمراض، على تلك الأمراض التي يصعب تشخيصها باستخدام السوائل البيولوجية التقليدية كالدم والبول أو السائل النخاعي، والتي تستغرق وقتاً طويلاً لتشخيصها نظراً لندرتها”.
ولكن ما الذي يجعل شمع الأذن كنزاً ثميناً من المعلومات الصحية؟
اتضح أن السر يكمن في قدرة الإفرازات الشمعية على أن تكون انعكاساً للتفاعلات الكيميائية الداخلية التي تحدث داخل الجسم، أي عملية الأيض.
وقد حدد الباحثون 27 مُركّباً في شمع الأذن بمثابة “بصمة” لتشخيص السرطان.
ويقول نيلسون روبرتو، أستاذ الكيمياء في الجامعة الفيدرالية في غوياس بالبرازيل، الذي ضرب مثالاً بداء السكري والسرطان ومرض باركنسون وألزهايمر: “إن العديد من أمراض الكائنات الحية هي أمراض أيضية”.
وأضاف: “في حالات كهذه، تبدأ الميتوكوندريا في العمل بشكل مختلف عن تلك الموجودة في الخلايا السليمة؛ حيث تبدأ بإنتاج مواد كيميائية مختلفة، وقد تتوقف حتى عن إنتاج مواد أخرى”.
وقد اكتشف مختبر نيلسون روبرتو أن شمع الأذن يُركّز هذا التنوع الهائل من المواد، أكثر من السوائل البيولوجية الأخرى كالدم والبول والعرق والدموع.
ويقول بروس كيمبال، عالم البيئة الكيميائية في مركز مونيل للحواس الكيميائية، وهو معهد أبحاث مقره فيلادلفيا: “هذا منطقي، إذ لا تحدث تقلبات كبيرة في شمع الأذن. إنه يتراكم، ومن ثَمّ فهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنه قد يكون مكاناً جيداً للحصول على تصوّر طويل المدى للتغيرات في عملية الأيض”.
مع وضع هذا في الاعتبار، يُطوّر نيلسون روبرتو وفريقه “مُخطَّط شمع الأذن”، وهو أداة تشخيصية يزعمون أنها قادرة على التنبؤ بدقة بإصابة المرء بأنواع مُعينة من السرطان بناءً على شمع أذنه.
وفي دراسة أُجريت عام 2019، جمع فريق نيلسون روبرتو عينات من شمع أذن 52 مريضاً بالسرطان شُخِّصوا إما بالورم اللمفاوي، أو السرطان، أو سرطان الدم.
كما أخذ الباحثون شمع الأذن من 50 إنساناً سليماً، ثم حللوا العينات باستخدام طريقة تُمكّن من الكشف بدقة عن وجود المركبات العضوية المتطايرة، وهي مواد كيميائية تتبخر بسهولة في الهواء.
وحدد الباحثون 27 مُركّباً في شمع الأذن، بمثابة نوع من “البصمة” لتشخيص السرطان.
بمعنى آخر، استطاع الفريق التنبؤ بدقة 100 في المئة بإصابة إنسان ما بالسرطان (سواءً كان ورماً لمفاوياً، أو سرطان الخلايا، أو سرطان دم) بناءً على تركيزات هذه الجزيئات الـ27.