من فاغنر إلى سلاف فواخرجي: ثقافة “الإلغاء” وحقّ الجمهور بالمحاسبة

تشهد نقابة الفنانين السوريين في الآونة الأخيرة صراعاً محتدماً يعكس عمق الانقسامات السياسية في البلاد. فقد أصدرت النقابة، قبل يومين، بياناً موقّعاً باسم النقيب مازن الناطور، أعلن فيه إلغاء قرار عزله من منصبه، وذلك بعد ساعات قليلة من تسريب قرار العزل إلى وسائل إعلام سورية، وكان موقّعاً من نائب النقيب، الفنان نور مهنا.

وقد برّر مهنا قرار العزل باتهام الناطور بـ”الاستئثار والتفرّد في اتخاذ القرار، وتهميش المجلس المركزي، ومخالفة القانون الناظم لعمل النقابة”.

وتأتي هذه التطوّرات بعد أسابيع قليلة من تصدّر نقابة الفنانين السوريين عناوين الأخبار، عقب منح النقيب عضوية النقابة “بمرتبة الشرف” لكلٍ من: المغنية السورية أصالة نصري، والمؤلف الموسيقي مالك جندلي، والمغني التراثي أحمد القسيم، والمغني اللبناني فضل شاكر.

لكن القرار الأكثر إثارة للجدل جاء قبل نحو ثلاثة أسابيع، حين أعلن الناطور فصل الفنانة سلاف فواخرجي من النقابة، استناداً إلى “النظام 40، الفقرة 58” من النظام الداخلي للنقابة، والذي يُجيز شطب قيد أي عضو “يسيء إلى سمعة الجمهورية العربية السورية أو ينافي الآداب العامة”.

وكانت فواخرجي قد وصفت، في مقابلةٍ أجرتها في فبراير/ شباط الماضي، الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بـ”الشريف”، مشيرةً إلى أنها لا تزال ترى فيه هذه الصفة “إلى أن يتبيّن العكس”.

لا يقتصر الجدل الذي أثاره قرار فصل فواخرجي من النقابة على السياق السوري وحده. إذ يعيد إلى الواجهة نقاشاً عالمياً أوسع حول العلاقة المعقّدة بين الفنّ ومواقف صاحبه، ومدى إمكانية أو مشروعية فصل العمل الفنّي عن سلوكيات صاحبه ومواقفه الشخصيّة.

ولعلّ أشهر مثال على الإطلاق في هذا السياق هو الموسيقي الألماني ريشارد فاغنر.

وقد رُوِّج لفاغنر خلال الحقبة النازية على أنه من الملحّنين المفضّلين لدى أدولف هتلر. ومنذ ذلك الحين، ارتبطت صورة فاغنر التاريخية بهذه الصفة، ولا يزال الجدل قائماً حول مدى تأثير أعماله الفنّية وكتاباته، لا سيما مقاله “اليهودية في الموسيقى”، في تشكيل أيديولوجيا ألمانيا النازية.

كذلك الأمر بالنسبة للشاعر الأمريكي عزرا باوند الذي أيّد الفاشية وبثّ خطابات معادية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ما أدّى إلى اعتقاله بتهمة الخيانة وإيداعه في مصحّة عقلية، لكنه لا يزال يُدرَّس في أقسام الأدب، وإن ضمن سياقات نقدية صارمة.

بدوره، واجه الفنان الإسباني بابلو بيكاسو اتهامات بسلوكيات مسيئة تجاه النساء، ودعت بعض التيارات النسوية إلى كسر الهالة المحيطة به وبأعماله.

كذلك، تسببت آراء الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ والتي اعتُبرت معادية للعابرين والعابرات جنسياً، في انقسام جمهور سلسلة هاري بوتر، إحدى مؤلفاتها، بين من يرى فيها خطاب كراهية ومن يدافع عن حقها في التعبير.

“إلغاء” الفنانين: بين المحاسبة والرقابة

يستند أنصار إلغاء الفنانين بشكلٍ أساسي إلى فكرة أن الشهرة تمنح أصحابها سلطة رمزية وتأثيراً واسعاً على الرأي العام، وبالتالي لا يمكن التعامل مع آرائهم أو سلوكياتهم على أنها “شخصية” أو “معزولة عن الفن”.

بالنسبة إليهم، استمرار دعم الفنانين الذين يروّجون لخطابات عنيفة – سواء كانت عنصرية أو تبريرية للجرائم أو معادية للنساء أو العابرين جنسياً – يعدّ تطبيعاً مع هذا الخطاب، بل ومشاركة غير مباشرة في الأذى.

في المقابل، يحذّر المدافعون عن فصل الفن عن الفنان من أن ثقافة الإلغاء قد تتحوّل إلى أداة رقابة وقمع، تحكم على الناس بمعايير أخلاقية متغيّرة وتضيّق هامش التعبير.

ويشير هؤلاء إلى أن العديد من الفنانين الذين يُعدّون رموزاً اليوم كانت لديهم مواقف إشكالية بمعايير الحاضر، فهل يعني ذلك محو إرثهم بالكامل؟ إضافة إلى ذلك، يرى هذا التيار أن الإبداع فعل إنساني معقّد، وأن مطالبة الفنانين بالكمال الأخلاقي هو أمرٌ في غاية الصعوبة.

نظرية “موت المؤلّف”

خلال القرن الماضي مع تنامي إشكالية فصل الفنّ عن الفنّان، وإشكالية إن كان ذلك ممكناً، برزت نظريات عدّة سعت إلى تقديم حلول لما بدا في أحيان كثيرة أشبه بمعضلة.

أهم هذه النظريات، نظرية “النقد الجديد” ونظرية المفكر الفرنسي وعالم السيميائيات رولان بارت عن “موت المؤلف”.

النظرية الأولى أطلقها بدايةً الشاعر الأميركي تي. أس. إليوت حين كتب أنه على القراء كي يقيّموا القصيدة التي بين أيديهم، ألا ينظروا إلى آثار حياة المؤلف، ولا إلى ما يمكن أن يكون قد قصده المؤلف، لكن عوضاً عن ذلك التعامل مع القصيدة كمرجع لذاتها منفصل عن العالم. لكن نظرية “موت المؤلف” تظلّ الأكثر شهرةً في هذا المجال، حين أعلن بارت عام 1967 أن الكاتب لا يخلق نصّاً، بل القارئ هو من يفعل ذلك.

ويرى أن صورة الأدب في الثقافة المعاصرة متمركزة بشكل “استبدادي” على المؤلف، شخصه، وتاريخه، ومذاقه، وشغفه، والنقد لا يزال يعتمد في أغلب الأحيان على القول مثلاً “إن عمل بودلير الأدبي هو نتيجة فشل بودلير الرجل، وعمل فان غوغ هو نتيجة جنونه، وعمل تشايكوفسكي هو نتيجة سيئاته؛ تفسير العمل دائماً يعتمد على الشخص الذي أنتجه”.

يقول بارت: “في كل مرة، نهتم فيها بنيّات المؤلف وحالته النفسية، نعود إلى المؤلف – الإله. نعطي المؤلف قوة تأويلية (على ما نفكر به نحن) وقوة مؤسساتية (على كيف يمكنه أن يتعامل مع الناس من دون عواقب)”. ويضيف: “لنقل إن المخرج يخرج فيلماً. ما أن يسرد الموقف وصولاً لنهاياته اللازمة (…) يصبح (المخرج) خارجاً عن أي وظيفة إلا عن التمثيل القوي للرمز. يحدث هذا الفصل، يفقد الصوت مصدره، يدخل المؤلف موته، وتبدأ الكتابة”.

الفنّ ليس “بريئاً”

على عكس هذه المقاربات التي تدعو إلى فصل العمل الفني عن حياة صانعه، نجد وجهات نظر أخرى تعتبر أن هذا الفصل يُستخدم في كثير من الأحيان لتبرئة الفنّ من مضامينه السلطوية أو حتى العنفيّة.

ويعتبر هذا التوجه أن من غير الممكن تقييم العمل الفني بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي أُنتج فيه، ولا عن المنظومات التي يعكسها أو يعيد إنتاجها، سواء كانت استعمارية أو أبوية أو عنصرية.

فقد رأت مولفي في مقالها الشهير “اللذة البصرية وسينما السرد” (1975)، أن السينما الكلاسيكية، وخصوصاً الهوليوودية مبنية على تمثيل المرأة كجسد يُنظر إليه ويُشتهى، لا كذات فاعلة. فهي “صورة”، فيما الرجل هو “صاحب النظرة” وفاعلها. ومعظم هذه الأعمال إن لم تكن كلّها، من صناعة رجال.

ويُظهر تحليل مولفي لبنية النظرة في السينما أن المشكلة لا تقتصر على حياة الفنان الشخصية أو مواقفه، بل تمتد إلى داخل العمل نفسه. أي أن الأيديولوجيا الذكورية لا تأتي فقط من سلوك المخرج أو الكاتب خارج الفيلم، بل تتسرّب إلى اللغة البصرية، وإلى كيفية بناء السرد وتوزيع الأدوار والسلطة داخل الحكاية. بهذا المعنى، يصبح من الصعب فصل الفن عن الفنان، ليس فقط لأن الفنان قد يكون شخصاً مسيئاً، بل لأن رؤيته للعالم التي قد تكون قائمة على تمييز ما، تتجسّد في العمل الفني نفسه.

ويوضح هذا المثال جوهر التوجه النقدي الذي نجده على نطاق واسع في النقد النسوي ونقد ما بعد الاستعمار.

ويرى هذا التوجه أنه لا يمكننا التعامل مع الفن ككائن مستقل ومتعالٍ عن سياقه. لأنه، في كثير من الأحيان، ينتج ويعيد إنتاج البنى ذاتها التي تديم التمييز والعنف الرمزي.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments