“حين أموت سأرسل من السماء أمطاراً من الورود على الأرض، سأقضي سمائي بفعل الخير على الأرض”، عكست القديسة تريز الطفل يسوع الوجه الأقدس، الملقبة بـ “وردة المسيح الصغيرة”، بهاتين العبارتين في حواراتها الأخيرة قبل وفاتها، روحانية عميقة، ورغبة مستمرة في خدمة النفوس بلا حدود، وهو ما جعل تأثير هذه القديسة الفرنسية صغيرة السن يتخطى حدود العقائد الدينية ليلمس القلوب في شتى أرجاء العالم.
ألهبت كتابات تريز البسيطة عن “محبة الله” مشاعر كل من قرأها، فوجد فيها المسيحيون نموذجاً حياً للقداسة اليومية، ورأى فيها غير المسيحيين صورة نقيّة للإنسان الممتلئ حباً وسلاماً وصدقاً، فأصبحت رمزاً إنسانياً يحمل رسالةً عن “معرفة الله من خلال الثقة البسيطة والحب المتواضع”.
وعلى الرغم من رحيلها المبكر عن هذا العالم، في عمر 24 عاماً فقط، تركت تريز وراءها إرثاً روحياً عميقاً، تجلّى في تعاليم رسمت درباً إيمانياً أُطلق عليه اسم “الطريق الصغيرة” نحو القداسة، وهو طريق روحي قائم على الثقة الكاملة بالله، وممارسة الأعمال اليومية الصغيرة بمحبة فائقة، فأصبحت واحدةً من أكثر القديسين المحبوبين، ويحمل اسمها ما يزيد على 700 كنيسة في العالم، وتُكرَّم في الكنيسة الجامعة كمعلّمة روحيّة، وتعد شفيعة فرنسا الثانية بعد القديسة جان دارك (1412-1430).
ومؤخراً، أثارت صورة “زهرة بيضاء” وُضعت على قبر البابا الراحل فرنسيس، كثيراً من التساؤلات والتأملات: هل هي تلميح رمزي إلى “وردة المسيح الصغيرة”؟ ورغبة لإبراز عمق صلة البابا وتأثره بالقديسة تريز في حياته وخدمته البابوية؟ وبدون شك، أسهمت رمزيّة تلك “الزهرة البيضاء” في تحريك القلوب، وأيقظت في الأذهان حضور القديسة تريز في عالم مضطرب مليء بالحروب والآلام، بلغةٍ لا تعرف إلا الحب، في الذكرى المئوية لإعلان قداستها هذا العام.
وكان البابا حريصاً على وضع “زهرة بيضاء” على منضدة في شقته الخاصة في بيت القديسة مرتا، كرمز لعلاقته الوثيقة بالقديسة تريز، التي لجأ إليها مراراً من أجل بركتها وسط آلامه وآلام الآخرين، واليوم توضع “زهرة بيضاء” أخرى على قبره بجوار اسمه، في قلب بازيليك مريم الكبرى، والتي “لم تكن لفتة فنية بقدر ما كانت امتداداً لخط وفاء ومحبة” بينهما.
وتؤكد تريز نفسها اعتزازها بهذه الرمزية التي احتفظت بها طوال حياتها، ونجدها تستهل كتابة سيرتها “قصة نفس” وتقدمها بـ “قصة زهرة صغيرة بيضاء ربيعية كتبتها بيدها وأهدتها إلى الأم المحترمة أنييس ليسوع”، كما تختتم المخطوطة (أ) من سيرتها وهي تسأل، مشيرةً إلى نفسها: “كيف ستنتهي قصة هذه الزهرة الصغيرة البيضاء؟ هل تُقطف الزهرة الصغيرة وهي يافعة، أم تُنقل إلى شواطيء أخرى… إني أجهل ذلك. ولكن ما أعلمه علم اليقين هو أن رحمة الله سترافقها دوماً”.
كما كرس البابا فرنسيس “إرشاده الرسولي” السابع خلال حبريته، للقديسة تريز، والذي نُشر تحت عنوان “إنها الثقة“، بمناسبة الذكرى الـ 150 لميلادها، وأيضاً الذكرى المئوية لتطويبها، استعرض فيه البابا “عمق العبقرية الروحية واللاهوتية” للقديسة تريز التي طالما تمنى أن تكون رفاتها، وكذلك رفات والديها، لويس وزيلي مارتان، حاضرة في قلب ساحة القديس بطرس، وهو يلقي تعاليم دينية ويقدّم القديسة كمثال عليها.
قال البابا في إرشاده الرسولي متحدثاً عن القديسة تريز: “في زمنٍ يشجعنا على الانغلاق على مصالحنا الذاتية، تقدم لنا تريز مثالاً على جمال كيف نجعل الحياة هبةً تُقدم للآخرين.. في زمن انطوى على الفردية، تكشف لنا تريز قيمة المحبة المتجسدة في الشفاعة للآخرين. في زمن افتُتنت فيه البشرية بالعظمة وأشكال السلطة الجديدة، ترشدنا تريز إلى طريق الاتضاع. في زمن يُهَمّش فيه كثيرون، تعلمنا تريز فضيلة اليقظة ورعاية الآخرين. في زمن مليء بالتعقيد، تساعدنا تريز على إعادة اكتشاف البساطة، ووضع أولوية مطلقة للمحبة، والثقة، والتسليم لله”.
“راهبة في سن المراهقة”
كان والدها يعمل صانعاً للساعات، أما والدتها فامتهنت الحرف اليدوية، ولأن تريز وُلدت ضعيفة البنية، فقد أرسلتها والدتها إلى مرضعة في عامها الأول، وقد عُرفت الطفلة بحنانها ودفء عاطفتها وارتباطها الوثيق بعائلتها، لذا كانت وفاة والدتها بمرض السرطان وتريز لم تكد تبلغ أربع سنوات وثمانية أشهر، تجربة صادمة لها أغرقتها في حزن عميق وحساسية مفرطة دامت ثماني سنوات.
يمكن تقسيم حياة تريز من واقع سيرتها الذاتية التي كتبتها بنفسها بعنوان “قصة نفس” إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، وهي الطفولة المفعمة بالسعادة قبل وفاة والدتها؛ والمرحلة الثانية من عام 1877 حتى 1886، ووصفتها بـ “شتاء التجربة”، وهي فترة برزت خلالها الحساسية الزائدة والتعب والوساوس الدينية؛ والمرحلة الثالثة من عام 1886 حتى عام 1897، والتي بدأت بتحول داخلي روحاني وانتهت بدخولها الحياة الرهبانية حتى الوفاة.
في عام 1881، انتقلت الأسرة إلى مدينة ليزيو الفرنسية، والتحقت تريز كطالبة في مدرسة دير البنديكتيات، كانت شديدة الخجل ومنطوية، مما جعلها تكره أجواء المدرسة، وفي سن العاشرة، عام 1883، عانت من نوبات مرضية وغيبوبة دامت ثلاثة أشهر، وبينما كانت تتضرع للسيدة العذراء بدموعها، شُفيت على الفور، وآمنت تريز بأن هذا الشفاء كان معجزة، حسبما قالت في “قصة نفس”.
طلبت تريز بصحبة والدها مقابلة الأسقف هوغونان، أسقف بايو-ليزيو، لتلتمس منه الانضمام المبكر للدير، ووعدها بالنظر في الأمر، ثم سافرت مع والدها وأختها سيلين إلى روما، وأثناء اللقاء العام، قُدّمت إلى البابا ليو الثالث عشر، وعلى الرغم من الحظر المفروض على الحديث، ناشدته تريز أن يسمح لها بدخول الكرمل وهي في سن الخامسة عشرة، فأجابها: “إذا شاء الله، ستدخلين”.
دخلت تريز، في التاسع من أبريل/نيسان 1888، دير الكرمل بعمر الخامسة عشرة، وقضت فيه السنوات التسع والنصف المتبقية من عمرها، لم تكن فترة خالية من المتاعب، وكرّست ذاتها للصلاة وحياة التأمل، وعاشت بأمانة صارمة لقواعد الرهبنة، ومارست واجباتها اليومية بتواضع وصمت، حتى أن كثيراً من الراهبات لم يدركن عمق قداستها إلا بعد وفاتها، حين نُشرت “قصة نفس” التي كشفت عن حياة “مملوءة بالبطولة الروحية”.
في عام 1893، أُختيرت تريز لتكون معلّمة للراهبات المبتدئات، طوال السنوات الأربع الأخيرة من حياتها، عبّرت خلالها عن “طريقها الصغير” للتقرّب من الله، والذي وصفه البابا بندكتوس الخامس عشر، فيما بعد، بأنه طريق “يحمل سر القداسة للعالم أجمع”.
تحدثت تريز عن هذا السر في “قصة نفس” قائلة: “أستطيع، رغم صغري، أن أطمح إلى القداسة، لا أقدر أن أسمو بنفسي، فعليّ أن أحتمل ذاتي كما أنا، بكل ما فيّ من ضعف، لكنني أريد أن أجد طريقاً صغيرة، قصيرة ومستقيمة، طريقاً جديدة تقودني إلى السماء”.
“قداسة توّجت أنوثتها، وعبقرية كلّلت قداستها”
لم تحلم تريز يوماً بأن تكون كاتبة، فهي كتبت ما كتبته في صمت غير مدركة أن أحداً خارج الدير سيعرف اسمها أو يقرأ ما كتبته، وأصبحت دفاترها بعد وفاتها مجلدات إيمانية حملت لملايين النفوس على مدار ما يزيد على قرن “يقظة روحية ونظرة جديدة إلى الله”، عمادها الثقة والاتكال والحب.
ويقول الأب شاهين ريشا الكرملي، في مقدمة عامة عن كتابات القديسة تريز: “في مئة عام، حققت بعد وفاتها، ما حلمت به في زوايا ديرها، وغصّ به نَفَثُها المصدور، وهو أن تجوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها.. وبالفعل صارت نُتف كتاباتها، وصرخات أشعارها، وبسمات مسرحياتها، وشهقات نزاعها، مجلداً ضخماً ترجم إلى ما يزيد على 40 لغة”.
ويمكن تقسيم الأعمال الكاملة لكتابات تريز إلى ستة أقسام: المخطوطات الثلاثة (أ، ب، ج) لسيرتها الذاتية “قصة نفس”، والمسرحيات (8)، والقصائد الشعرية (54 + 8 قصائد إضافية)، والرسائل (266)، والصلوات (21)، والأحاديث الأخيرة (الدفتر الأصفر + كلمات تريز الأخيرة لأختها سيلين).
ويقول الأب البلجيكي كونراد دي ميستر الكرملي، في دراسته “اليدان الفارغتان”: “منذ طبع سيرتها الذاتية عام 1898، كان لرسالة تريز تأثير على عدد لا يحصى من المسيحيين، وسمّى البابا بيوس الحادي عشر، الذي أعلن قداستها، تريز (كلمة من عند الله). والآن أصبح تأثيرها أكثر انتشاراً، ممزوجاً كما الخميرة في العجين”.
كما كتبت الفيلسوفة اليهودية، إديت شتاين (فيما بعد القديسة تريزا بنديكتا للصليب)، إلى صديقة كانت قد اصطدمت بأسلوب تريز قائلة: “ما تكتبينه لي عن الصغيرة تريز يدهشني. إلى الآن، لم أكن لأفكر أنه يمكننا التطرق إليها بهذه الطريقة، إن الانطباع الوحيد الذي كان لديّ، هو أنني كنت أجدني أمام حياة إنسانة مختَرَقة كلياً بحب الله وحده، إلى أقصى حد”، بحسب دراسة الأب دي ميستر.
تشاطر تريز قارئها في هذه الكتابات حياتها والنعم الكثيرة التي أسبغها الله عليها، وتشركه في تقدمة ذاتها “ذبيحة للحب الإلهي الرحيم”، فنجدها تقول في المخطوطة (ب): “فهمت أن الحب يضم جميع الدعوات، الحب هو كل شيء، إنه يحتضن جميع الأزمنة وجميع الأمكنة.. بكلمة واحدة، إنه أبدي”.
وتقول في رسالة إلى أختها ماري: “أشعر جيداً بأن ليس شيء من هذا كله ما يرضي الله تعالى في نفسي الصغيرة، ما يرضيه هو أن يراني أحب صغري وفقري، إنه الرجاء الأعمى الذي لي في رحمته.. ها هو ذا كنزي الوحيد”.
وعن هذا الكنز كتبت تريز قصيدة بعنوان “العيش بالحب” تقول في بعض مقاطعها: “العيش بالحب، عطاء بدون حساب، بدون مطالبة بأجر على الأرض/ آه! بدون حساب أعطي كوني متأكدة جداً أنه عندما نحب، لا نحسب!/ إلى القلب الإلهي، الفائض بالمحبة، أعطيت كل شيء.. وبخفة أجري/ لا أملك شيئاً على الإطلاق غير كنزي الوحيد: العيش بالحب”.
وتبرز تريز بُعداً جديداً للعطاء في حبها لله في رسالة أخرى وتقول: “أرى بسعادة أنه بحبنا لله يكبر القلب، ويستطيع أن يعطي حناناً، بشكل لا يضاهى، إلى الأعزاء عليه أكثر مما لو كان مُركزاً في حب أناني عقيم”.
كما حرصت تريز على التأكيد في أكثر من موضع على ضعفها، وصراعها الدائم بين “الرغبة والعجز”، وأبرز مثال على ذلك عندما تحدثت عن رغبتها في أن تصبح قديسة: “لقد رغبت في أن أكون قديسة، لكن يا للأسف! لقد لمست دائماً، عندما قارنت نفسي بالقديسين، أن هناك بينهم وبيني الفرق عينه الذي بين جبل تضيع قمته في السماوات وبين حبة رمل مظلمة”، وعلى الرغم من ذلك تقول، في مخطوطة (ج)، إنه “لن يكون أكثر القديسين قداسة، كاملين إلا في السماء”.
ويرى الأب جان سليمان الكرملي، في مقدمة عن القيمة اللاهوتية لكتابات تريز أنها “امرأة قديسة عبقرية، القداسة توّجت أنوثتها، والعبقرية كلّلت قداستها، فجاء لاهوتها منيراً، وغدا مثالها حياً مشوقاً”.
ويضيف: “تريز الحميمة مع العذراء مريم، والشغوفة بالقديسات كمريم المجدلية وسيسيليا وأنييس وتريزا الآفيلية وجان دارك وغيرهن، تعي دورها ومكانتها كامرأة، أعطتنا تراثها الروحي بأسلوب أنثوي، رقيق، واقعي وحي”.
ما يؤكد ذلك أن تريز لم تتردد في التصريح والبرهان، في المخطوطة (أ)، على أن النساء “يحببن الله بعدد أكبر من الرجال، وإبان آلام المسيح، أظهرن شجاعة أكبر من شجاعة الرسل، إذ تحدين إهانات العسكر وتجاسرن على مسح وجه المسيح”.