أرغفة قليلة من الخبز اليابس وأكواب محدودة من المياه العكرة هي كل ما على مائدة غذاء تتجمع حولها فاطمة وأفراد عائلتها الثلاثون في منزلهم في جباليا شمالي غزة، إحدى المناطق التي دُمرت بشكل كامل تقريباً بعدما شنت إسرائيل عمليتها العسكرية الأخيرة في شمالي القطاع الشهر الماضي.
ليس بوسع فاطمة الآن فعل أي شيء سوى الاعتماد على كمية ضئيلة من مياه مخزنة في وعائين صغيرين لن يكفيا – على الأرجح- حاجة نصف عدد أفراد العائلة ولو لأيام قليلة مقبلة. فجميع أوعية المياه التي كانت مخزنة فوق سطح المنزل تحطمت تماماً بفعل الشظايا المتطايرة جراء الضربات الإسرائيلية العنيفة والمتواصلة صباحاً ومساءً منذ بدء العملية هذه.
“حتى قضاء الحاجة بات مشكلة. أنا أبحث عن قطع القماش لاستخدامه بدلاً من المحارم التي باتت وحياً من الخيال”، هكذا تقول فاطمة – البالغة من العمر 37 عاما – بصوت مرتجف لبي بي سي.
أما الاستحمام، فمرة كل أسبوعين – إن حالفها الحظ – بمياه شحيحة وذات رائحة كريهة.
ومنذ بداية هذه العملية الأخيرة، غادر أكثر من نصف سكان الشمال البالغ عددهم 400 ألف شخص، بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفسطينيين (الأونروا). والآن لم يبق أكثر من 100 ألف شخص في شمال القطاع، وفقاً لأحدث تقرير صدر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان المحلي الأسبوع الماضي.
ومنذ ذلك الحين، أسفرت الضربات الإسرائيلية على شمال غزة عن مقتل قرابة 1800 شخص وإصابة نحو 4000 جريح، وذلك وفقاً لأحدث بيانات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي بقطاع غزة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني.
تقول: “وقع انفجار ضخم هز المنطقة كلها، كنت أرى ركاماً يتطاير فوق رأسي. عندما هرعت للطابق الأسفل لأبحث عن أمي وأخي، لم أستطع أن أرى شيئاً أمامي بسبب كثافة الدخان. لم يكن بوسعي حتى أن أرى خطوة أمامي، فانتظرت حتى يهدأ الغبار، وسمعت حينها صوت أخي يصرخ ويقول إن أمي استشهدت. صرت أصرخ وألطم ونزلت جرياً، وفقدت وعيي تماماً بعد ذلك”.
أرسلت فاطمة لبي بي سي رسائل صوتية عدة لترسم لنا جانباً من الصورة في شمال غزة. وصلت لنا بعض هذه الرسائل بعد يوم أو اثنين من الانتظار، فالاتصالات في الشمال شبه منعدمة والتواصل عبر الإنترنت من هناك يستلزم إما الخروج لأسطح المنازل أو السير نحو أماكن بعيدة، تعمل فيها شبكات الاتصال.
تقول في إحدى رسائلها: “لأن الاتصالات مقطوعة أغلب الوقت، هناك أشخاص لا نعرف ما إذا كانوا أحياء أو أمواتاً داخل منازلهم، فنحن لا نستطيع الاتصال بهم بأي شكل”.
السبب في ذلك، هو عدم قدرة طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول للأماكن التي تعرضت للقصف الإسرائيلي في شمال القطاع. في 23 أكتوبر/تشرين الأول أعلن الدفاع المدني عدم استطاعته انتشال الجثامين الملقاة في شوارع المنطقة الشمالية عقب “اعتقال خمسة من عناصره واستهداف ثلاثة آخرين وقصف مركبة الإطفاء الوحيدة”.
“أنا لا أستطيع حتى أن أميز مصدر الرائحة الكريهة التي أشمها في كل مكان، فهو خليط من روائح النفايات مع رائحة الصرف الصحي مع تحلل جثامين الحيوانات والبشر على غبار منبعث من الركام والدخان .. كل هذه الروائح أشمها معاً”، هكذا تقول فاطمة بنبرة حزينة في رسالة صوتية لبي بي سي.
لا تختلف الصورة كثيراً بين جباليا ومدينة بيت لاهيا الواقعة أيضاً في شمال غزة، فبيت لاهيا التي كانت ممتلئة بالمساحات الخضراء تحولت إلى أرض رمادية، بسبب كثرة الركام والدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي في هذه المنطقة. المدينة تدمرت بشكل كامل وأعلنت بلديتها في 30 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنها صارت “منطقة منكوبة”.
يضيف: “كنت أشاهد ألسنة النيران من نافذة المستشفى، وكادت أصوات الانفجارات تخرق الأذن، فنحن نسمع كل أنواع الانفجارات من الـ F16 والأباتشي والدبابات”.
انهيار كامل للقطاع الطبي
وفي 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قصف الجيش الإسرائيلي مستشفى العودة وحاصرالمستشفى الإندونيسي وقال مستشفى العودة في بيان إن “المدفعية الإسرائيلية قصفت الطوابق العلوية للمستشفى ثلاث مرات، ما أدى إلى إصابة عدد من الطواقم الطبية”. أما المستشفى الإندونيسي، فقال مديره، مروان السلطان، إن الدبابات الإسرائيلية وصلت للمستشفى وحاصرته من جميع الجهات، وقطعت التيار الكهربائي بداخله، مشيراً إلى أن الجرحى بداخله يواجهون الموت في أي لحظة.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في منشور على منصة إكس، الاثنين 21 أكتوبر/تشرين الأول، إن الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) وقوات الفرقة 162 يواصلون تنفيذ عملية مشتركة ضد “المخربين والبنى الإرهابية” في منطقة جباليا شمال القطاع. وأضاف أدرعي أن الجيش “سمح للمدنيين بالإخلاء بشكل آمن من المنطقة عبر مسارات منظمة حيث غادر المنطقة منذ صباح اليوم مئات عديدة من السكان”.
أما مستشفى كمال عدوان -الذي تعرض للاقتحام أكثر من مرة- فكان آخر مستشفى مفتوح في شمال غزة قبل اقتحامه من قبل القوات الإسرائيلية الأسبوع الماضي، وطرد واعتقال الغالبية الساحقة من أفراد الطاقم الطبي هناك، ولم يتبق منه سوى طبيب واحد، كما يقول مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية لبي بي سي.
حتى أبو صفية نفسه فهو مكلوم، بعدما فقد نجله جراء القصف. ففي 26 أكتوبر/تشرين الأول، استقبل أبو صفية – مرتدياً معطفه الأبيض – جثمان ابنه البالغ من العمر ثماني سنوات، وظهر في مقاطع مصورة عبر الإنترنت وهو يحمل نعش ولده قبل أن يدفنه في محيط المستشفى.
ورغم ذلك، يحاول تقديم ما أمكن للمصابين، رغم الوضع “الكارثي” للمستشفى الذي يديره، بحسب وصفه.
يقول لبي بي سي: “في المستشفى نحو 150 حالة تستلزم جراحات حرجة، لا يمكن إجراؤها بسبب العجز الكبير في الطاقم والمواد الطبية، تأتينا حالات حرجة تحتاج لتدخلات عاجلة ولكننا نقدم إسعافات أولوية فقط…ماذا أقول؟ هناك حالات ربما ترى فيها العظام خارجة عن الأجساد”
ويضيف الدكتور أبو صفية أن هناك حاجة ماسة لوفود كوادر طبية لمستشفى كمال عدوان مع السماح الفوري بتوفير سيارات إسعاف لنقل المصابين.
ويقول الجيش الإسرائيلي إن المستشفى كان يحوي عناصر لحركة حماس، وإنه أنهى “عملية محددة ضد أحد معاقل إرهابيي حماس” في المستشفى، وهو ما ينفيه مسؤولو القطاع الصحي في غزة.
أما محمد رضوان، وهو طبيب بقسم الطوارئ في المستشفى الإندونيسي، فيقول لبي بي سي : “بتنا في مسارعة الموت…لا نملك أي شيء لتقديم خدمة طبية مناسبة، فالوضع العام بات مسبباً لانتشار الأمراض”. رضوان وغيره من السكان في شمال القطاع “محاصرون منذ شهر” في محيط المستشفى.
“خطة الجنرالات”
ويعتقد فلسطينيون وهيئات أممية ومنظمات إغاثة أن إسرائيل تسعى لتنفيذ جزء أو كل ما يعرف بـ “خطة الجنرالات”، التي تقول وسائل إعلام إسرائيلية إن ضباطاً سابقين في الجيش الإسرائيلي اقترحوها، وترمي لتحويل منطقة الشمال إلى “منطقة عسكرية مغلقة” بهدف القضاء التام على أي تواجد لعناصر حركة حماس.
لكن الجيش الإسرائيلي ينفي وجود خطة كهذه من الأصل ويقول إنه يسعى لتجنيب المدنيين أي أضرار.
ويقول مسؤولون إسرائيليون إنهم يواصلون ملاحقة عناصر حماس بعدما توصلوا لمعلومات استخباراتية تشير إلى أن التنظيم بدأ في استعادة صفوفه وتشكيل عناصر جديدة في شمال القطاع.
ومن الصعب نقل صورة واضحة ودقيقة لما يحدث في شمال غزة، إذ يرفض الجيش الإسرائيلي السماح للصحفيين التابعين لمؤسسات دولية مستقلة، من بينهم صحفيو بي بي سي، تغطية الأحداث من الداخل. بعض الأخبار فقط تصل للعالم عبر مقاطع مصورة يلتقطها السكان هناك وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر صحفيين مستقلين محليين. ووفقاً للجنة حماية الصحفيين، قتل 134 صحفياً حتى مطلع الشهر الجاري في غزة منذ بداية الحرب.
ومنذ أن بدأت الحرب على غزة قبل ما يقرب من 13 شهراً، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 43 ألف فلسطيني وأصابت أكثر من 100 ألف آخرين، وفقاً لوزارة الصحة في قطاع غزة. ويبقى أكثر من 10 آلاف شخص في عداد المفقودين ويعتقد أنهم لقوا حتفهم تحت الأنقاض.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت حماس هجوماً غير مسبوق على جنوب إسرائيل، وصف بالهجوم الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل وأشعل شرارة حرب ضارية بين حماس وإسرائيل، تستمر منذ أكثر من عام واتسعت رقعتها في المنطقة.