هل يمكن استبدال العمارة الحديثة بالعمارة التراثية الصديقة للبيئة؟

“لا حاجة لاستخدام مكيفات الهواء للتبريد، ولا إلى التدفئة إلا في أوقات قليلة للغاية”.. هكذا يتفق كل من زينب من مصر وجهاد من لبنان في وصف حياتهما في منزلي أجدادهما.

يقع منزل جدة زينب في واحة سيوة غربي مصر، وهو بيت تراثي مبني من مادة “الكرشيف” المحلية. تقول زينب إن هذه المادة عبارة عن حجر طيني مخلوط بالملح والرمال، وكلها مواد من البيئة في سيوة التي ما تزال تزخر بهذا النوع من البيوت التراثية.

ترتفع درجة الحرارة في الصيف في سيوة لتلامس ال50 درجة مئوية، لكنها داخل منزل جدة زينب تصبح أقل بعشر درجات عندما قامت بقياسها، مضيفة أن البيت يكون أكثر دفئا حتى في الشتاء بأكثر من 6 درجات عن الخارج.

تؤكد زينب أنها لا تستطيع الاستغناء عن مكيف الهواء خاصة في الصيف في منزلها بعد زواجها في وحدة سكنية مبنية حديثا من الطوب الأسمنتي، “حتى إن احتجنا للتدفئة في منزل جدتي في الشتاء فإننا نضع إناءا حديديا نشعل فيه خشب شجر الزيتون في غرفة محددة مصممة لتكون عكس اتجاه الرياح ومع اتجاه الشمس ما يجعلها أدفأ غرفة في المنزل”.

تقول زينب أيضا “كنا نحفظ الأرز والدقيق والزيت والبقوليات وحتى اللحوم المجففة ولا تفسد لمدة عام”، يعود هذا بحسب زينب وجهاد إلى العزل الجيد للمنزلين بسبب بنائهما من مواد محلية طبيعية.

ترجع الدكتورة رنا الدبيسي أستاذة العمارة في الجامعة اللبنانية سر نجاح البيوت التراثية وبقائها لعشرات السنين إلى اعتمادها على مواد من الطبيعة في بنائها، تقول الدبيسي “لبنان مثلا ينقسم إلى ثلاث مناطق في رأيي، منطقة الساحل وهي غنية بالحجر الرملي الذي كان يتم البناء به مخلوطا بالجير والقش، ومنطقة جبل لبنان الغنية بالحجر الصخري، ومنطقة البقاع التي كانت بيوتها من الحجر الطيني”.

تقول الدبيسي “تفاجئنا أثناء عملنا على دراسة لتوثيق التراث العمراني بوجود بيوت قديمة في قرى شبه مهجورة في لبنان لم تصبها أضرار ناتجة عن المناخ خاصة الأمطار، هذا يدل على ثباتها الطويل بسبب بنائها من مواد طبيعية”.

لماذا توقف البناء التراثي الصديق للبيئة؟

انتهى البناء التراثي تدريجيا في سيوة ودير القمر، بحسب زينب وجهاد. تقول زينب إن العمال الماهرين في البناء بمادة “الكرشيف” غادروا للعمل خارج مصر، والمتبقي منهم لا يتجاوز نسبة 10٪ من أهالي سيوة، وتوضح زينب “أصبح البعض يستخدم “الكرشيف” كطبقة خارجية فقط على المباني الحديثة تشبها بالبيوت التراثية في سيوة”.

بينما يرجع جهاد السبب إلى التكلفة الكبيرة للحجر الصخري الذي يحتاج الناس كميات كبيرة منه لبناء المنزل بجدران سميكة وأرضيات عازلة، يقول جهاد “لا أرى رغم ذلك أن التكلفة كبيرة مقارنة بتكلفة الكهرباء اللازمة لتشغيل مكيفات الهواء وتكلفة غاز التدفئة، أصبح البعض يخلط الحجر الصخري بالأسمنت إن أراد حلا وسطا”.

بينما يرى أكرم يوسف الأكاديمي والمعماري المصري أنه من الصعب تطبيق العمارة التراثية في الوقت الحالي لأسباب عدة، فمثلاً هذا النمط يعتمد على التوسع الأفقي الذي يستهلك مساحات أكبر من قطع الأراضي في حين أن كل التوجهات العالمية تنادي الآن بتبني سياسات التكثيف والتوسع الرأسي بدلاً من الأفقي للحد من استهلاك الأراضي والزحف العمراني.

ويضيف يوسف أن البناء التراثي يعتمد على تقنيات وأساليب بناء قديمة نسبياً، كبناء القباب والأسقف الخشبية، وهذا ليس متداولا الآن في صناعة التشييد والبناء التي تعتمد بشكل أساسي على الخرسانة المسلحة ومشتقاتها، إضافة إلى صعوبة تدريب القوى العاملة على هذا النمط من البناء ما يحتاج إلى الوقت والموارد الاقتصادية المكلفة.

ويؤكد يوسف أن البناء التراثي يستهلك الكثير من الموارد الطبيعية ما يؤدي إلى صعوبة تعويض هذا الفقد، مستشهدا بما كان يحدث قديماً في الريف المصري من استخدام الطوب اللبن الناتج عن تجريف الأرض الزراعية في بناء المنازل “كان فيضان النيل يعوض ما تفقده الأرض من الطين والطمي، لكن ذلك توقف منذ بناء السد العالي، وبالتالي تم تجريم تجريف الأراضي الزراعية قانونا”.

ترى الدكتورة رنا الدبيسي أستاذة العمارة في الجامعة اللبنانية ذلك ممكنا من خلال الخلط بين البناء بالمواد الطبيعية والتقليدية “يمكن استخدام الخرسانة مثلا في بناء الأعمدة والأسقف، واستخدام المواد الطبيعية في بناء الحوائط”.

وتضيف الدبيسي حلا آخر، وهو استخدام أساليب مختلفة في البناء بالمواد الحديثة، مثل زيادة سماكة الحجر المستخدم في البناء لتحقيق عزل حراري جيد، مع مراعاة اتجاه الرياح والشمس عند توجيه فتحات الغرف لتقليل الاعتماد على مكيفات الهواء وغاز التدفئة.

وتؤكد الدبيسي ضرورة تفعيل هذه الأساليب وغيرها من خلال السلطات المحلية وأداء دورها الرقابي في إيجاد التوازن ما بين الحفاظ على البيئة واستمرار البناء والتشييد.

 

المصدر: BBC