لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الكتاب المقدس والقرآن؟

صمت تاريخ مصر القديم وآثاره حتى الآن عن ذكر حادثة “خروج العبرانيين” من أرض مصر التي ورد ذكرها في سفر الخروج في الكتاب المقدس وبعض آيات القرآن، كما صمتت النصوص الدينية المقدسة عن ذكر اسم هذا “الفرعون” الذي حكم مصر وعاصر النبي موسى، الأمر الذي أثار شغف الكثير من علماء تاريخ مصر القديم ودفعهم إلى تسخير كل ما لديهم من معلومات تاريخية لوضع فرضيات لعلها تفضي إلى حل هذا “اللغز” وتحديد شخصية هذا الملك “المجهول” إلى أن تبدو في الأفق أدلة أثرية جديدة تحسم الجدل بينهم.

في عام 1976 استقبلت قاعدة “بورجيه (دويني)” الجوية في العاصمة الفرنسية باريس مومياء الملك رعمسيس (رمسيس) الثاني، التي وصلت على متن طائرة عسكرية فرنسية من طراز “بريجيه” ذات الطابقين، وأقيمت لها مراسم استقبال رسمية مهيبة بحضور مبعوثة الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، وقائد القوات المسلحة الفرنسية، وسفير مصر في باريس، وبمشاركة الحرس الجمهوري الفرنسي، وعزف الموسيقى العسكرية، قبل أن تستقر المومياء في “متحف الإنسان” في قلب العاصمة، تمهيدا لإجراء عملية ترميم لها على يد نخبة من العلماء الفرنسيين بسبب “فطريات أصابتها”.

كان الرئيس الفرنسي قد نجح في إقناع الرئيس المصري وقتها، محمد أنور السادات، بإرسال مومياء الملك إلى باريس لإجراء فحوص علمية، من بينها الكشف عن مزيد من أسرار حياة الملك ومعرفة أسباب وفاته، لاسيما وأنه توفي في سن كبير وكان يعاني من أمراض الشيخوخة.

استدعت المهمة مشاركة ما يزيد على مئة باحث علمي وعشرين مؤسسة ومركزا ومعهدا علميا أبرزهم: المركز الوطني للبحوث العلمية (لأخذ العينات وفحصها)، وإدارة الطب الشرعي (لفحص البقايا العظمية والجلدية)، ومعهد الحفريات البشرية (لفحص بقايا التربة العالقة)، ومعهد باستير للتحاليل الميكروبيولوجية، ومؤسسة الطاقة الذرية بكالي وغرونوبل (لمعالجة المومياء بأشعة غاما)، ومتحف الإنسان، وقسم الآثار المصرية في متحف اللوفر .. وغيرها.

فحص الفريق جميع أجزاء المومياء، داخليا وخارجيا والهيكل العظمي والأجزاء الرخوة، وذلك باستخدام الأشعة السينية التقليدية، والفحص بالراديوغراف العادي، والتصوير الزيروغرافي والتصوير اللوني الكثافي، والتصوير باستخدام منظار داخلي، مع تقسيم أجزاء العمل في المومياء إلى ستة أقسام.

كما أعد العلماء دراسات بكتيرية وفطرية للمومياء، وأخذوا عينات من بقايا النباتات العالقة عليها، وتكمن أهمية هذه النباتات في أنها تعد أقدم عينات نباتية من نوعها في العالم، كما أخذوا عينات من بقايا حبوب اللقاح وأخشاب وحبوب ومواد صمغية وحبيبات رمال، ونشرت جميع هذه الدراسات في مؤلف ضخم صدر بعنوان “La Momie de Ramses II (مومياء رعمسيس الثاني)” في عام 1985، أي بعد تلك الفحوص العلمية بثمانية أعوام.

“آلام وأوجاع رمسيس الثاني”

أوضحت الدراسة الميكولوجية، دراسات علم الفطريات Mycologique، لبعض الأجزاء من بين أرجل وكعبي المومياء وأيضا في الكتف الأيمن أن بعض البكتريا موجودة بسبب تغيرات في الحرارة والرطوبة منذ الكشف عن المومياء في خبيئة الدير البحري التي قام بتفريغها العالم الفرنسي غاستون ماسبيرو عام 1881، وفك لفائفها رسميا في أول يونيو/حزيران عام 1886.

كما أسفر الفحص العلمي عن اكتشاف تآكل في عظام الفكين العلوي والسفلي ووجود جيوب في مستوى جذور الأسنان نتيجة تجمعات صديدية (خُراَج)، كما أوضحت الأشعة السينية وجود تسوس في منطقة الضروس، ولم تبين الفحوص وجود أي علاج للأسنان أثناء حياة الملك.

وتبين أيضا وجود آثار التهاب في الفقرات العنقية، وتصلب في الشرايين المرفقية والفخذية والساقين، واعتلال كامل في عظام الوركين، وهشاشة في شعر الرأس، كما ثبُتت إصابة الملك بالتهاب تصلبي في مفاصل الفقرات، وأن هذا الالتهاب كان يجتاح جسده في السنوات الأخيرة من عمره، وكل ذلك يدل على تدهور صحة الملك بشدة وإصابته بالتهاب المفاصل الروماتزمي Spondylarthrite ankylosante خلال السنوات العشرين قبل وفاته، بحسب دراسة نوبلكور.

“معلومات جديدة في علم المصريات”

كتبت العالمة الفرنسية نوبلكور فصلا بعنوان “ما يعد إضافة إلى علم المصريات” وذلك في مؤلف “مومياء رعمسيس الثاني” الذي شمل جميع الاستنتاجات والنتائج العلمية لفحص مومياء الملك وما يعد إضافة جديدة بالنسبة لعلم دراسات تاريخ مصر القديم، المعروف اصطلاحا بـ “علم المصريات”.

وأضافت: “أثار ذلك الكثير من العجب والدهشة لدى فريق الأطباء المعالجين، فإن ذلك النبات (النيكوتيانا) لم يكن قد عُرف بعد في مصر .. كما عُثر على الآلاف من حبوب لقاح أحد نباتات عائلة البابونج في تجويف الصدر، بالإضافة إلى بعض نبات القويصة والحوذان، وكمية من أوراق التليو مضافا إليها بعضا من نبات الصِنَار، فضلا عن حبات لقاح القطن البري، وكل ذلك يزرع بأرض وادي النيل”.

وتبين من فحص عينات لفائف الكتان التي جرى تحليلها بواسطة الكربون المشع، لمعرفة عمرها الزمني، أن الطبقة الأولى تشير إلى مدة 1370 قبل الميلاد، والطبقة الأخرى إلى 1100 قبل الميلاد، ويرجع ذلك إلى إعادة المومياء إلى حالتها الأصلية عند دفنها مرة أخرى في عصر الأسرة الحادية والعشرين عندما حدث تعدي على المقابر الملكية.

“أعظم ملوك مصر القديمة”

يعد الملك رعمسيس الثاني أعظم ملوك مصر القديمة، بل من أعظم ملوك العالم في التاريخ القديم، وهو واحد من قلائل حكموا فترات زمنية طويلة امتدت إلى نحو 67 عاما، وهو صاحب أكبر عدد من الأبناء (حوالي 52 ولداً، و32 بنتاً)، وزوج الملكة الشهيرة نفرتاري، شيّد أضخم تمثال نحتته يد البشر في أي زمان ومكان (وزنه حوالي ألف طن)، وهو في موقعه في معبد الرامسيوم، بعد أن سقط بفعل زلزال.

رعمسيس الثاني صاحب أهم المومياوات من حيث تقنية التحنيط، وصاحب أضخم معبد منحوت في الصخر (معبد أبو سمبل)، وبنى أكبر عدد من المعابد في بلاد النوبة، وله أضخم صالة أعمدة في مصر بمعابد الكرنك، بل يكاد يكون الملك المصري الوحيد الذي ترك لنفسه تذكارا في كل مكان على أرض مصر، وصاحب أشهر المعارك في التاريخ القديم (معركة قادش) وصاحب أشهر وأول معاهدة سلام في التاريخ.

تولى الملك رعمسيس الثاني الحكم بعد وفاة والده الملك سيتي الأول، وقد أشار نص في معبد والده في أبيدوس أنه (سيتي الأول) أشرك معه في الحكم ابنه رعمسيس الثاني.

بحلول العام الثاني من حكمه، وقبل مواجهته الحيثيين، اضطر رعمسيس الثاني إلى التصدي لهجوم القراصنة “الشردانا” وهزمهم في معركة بحرية وضمهم إلي جيشه، ولم تبدأ المعارك الحربية إلا في العام الرابع من حكمه، فقام بحملته العسكرية على سوريا.

ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال، في دراسته “تاريخ مصر القديم” إن الحملة العسكرية “سارت بالمصريين من ثارو (القنطرة) إلى أرض كنعان وصور ثم بيبلوس، ثم توغلوا شرقا في بلاد (أمورو) وفاجأوا الأمير (بنتشينا) حليف الحيثيين، فقدم لهم فروض الولاء والطاعة ثم عادوا أدراجهم إلى مصر عبر فينيقيا”.

تذكر النصوص المصرية القديمة أن ملك الحيثيين أرسل إلى رعمسيس الثاني خطابا يلتمس منه العفو عن رعاياه بعد هزيمته، أما وجهة نظر الحيثيين فتذكر رواية مغايرة تتحدث عن هزيمة المصريين، بيد أن دراسة النصوص المصرية والحيثية في إطار منهجي وموضوعي أوضحت أن أحدا من الطرفين لم يحرز نصرا حاسما، وأن حدود البلدين لم يصبها أي تغيير، على أية حال كانت معركة قادش من الأسباب التي دعت رعمسيس الثاني إلى استعادة امبراطوريته في آسيا، ونظم في العام الثامن من حكمه حملة عسكرية إلى فلسطين وسوريا وأخمد ثورات هناك وأعاد الاستقرار للبلاد.

ظلت حالة التوتر مستمرة بين المصريين والحيثيين، إلى أن أدرك الطرفان أن السلام خير خطوة بينهما فأبرما أول معاهدة سلام في التاريخ، في العام 21 من حكم رعمسيس الثاني، أي حوالي 1280 قبل الميلاد، وتنتصر المعاهدة لمبادئ “الأمن والأخوة والسلام”، ونعرف تفاصيلها من نصوص مصرية ومسمارية، ولعل أبرز ما تضمنته بنودها هو تأسيس حلف هجومي-دفاعي بين رعمسيس الثاني والملك الحيثي خاتوسالي الثالث، كما عززت المعاهدة رغبة رعمسيس الثاني في إبرام مصاهرة دبلوماسية وتزوج من ابنه ملك الحيثيين.

أمر رعمسيس الثاني بتسجيل هذا الزواج على جدران معبد الكرنك وأبو سمبل وتذكر النصوص المصرية أن فرعون مصر “رأى (في ابنه الملك الحيثي) أنها جميلة الوجه كأنها آلهة… ولقد وقع جمالها في قلب جلالته وأحبها أكثر من أي شيء آخر”، بل ومنحها الاسم المصري مأ أت حور نفرو رع، أي “تلك التي ترى حورس وجمال رع”.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments