“نعمة الدنيا” هكذا وصف أديب نوبل نجيب محفوظ ببساطة وفي إيجاز مُدهش أم كلثوم، التي كتبت عنها الباحثة المتخصصة في الموسيقى فرجينيا دانييلسون كتابا عنوانه “صوت مصر، أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين” تقول فيه :”إنها المُطربة الأكثر إنجازا وتكاملا في العالم العربي في القرن العشرين، فقد تمتعت ببراعة جوان ساذرلاند وإيلا فيتزغيرالد في الغناء، وشخصية إليانور روزفلت في الحياة العامة، وتأثير ألفيس بريسلي على الجمهور”.
وفي العام الماضي، احتلت أم كلثوم، المركز 61 في قائمة أعظم 200 مطرب في التاريخ، والتي أعدتها مجلة رولينغ ستون الأمريكية المتخصصة في الموسيقى، وكانت المطربة العربية الوحيدة في القائمة، ووفقا لتقرير المجلة فإن كوكب الشرق ليس لها نظير في الغرب، إذ تعتبر روح العالم العربي، وصاحبة تأثير امتد لما هو أبعد من الغناء.
عُرفت أم كلثوم بالعديد من الألقاب مثل كوكب الشرق، وشمس الأصيل، وصاحبة العصمة، وقيثارة الشرق، وثومة، والست، وسيدة الغناء العربي، ولا خلاف حول ألقابها العديدة، ولكن يختلف البعض حول اسمها الحقيقي.
وقال عوض في كتابه إنه عندما وضعت الأم فاطمة المليجي مولودتها في بيتها الريفي الصغير بقرية طماي الزهايرة في مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية بمصر، حملت القابلة المولودة وخرجت بها إلى والدها وهي تصرخ: “مبروك فاطمة ولدت”، دون الإشارة إلى أنها أنجبت طفلة، خشية أن يُصدم الأب الشيخ إبراهيم البلتاجي.
وكان البلتاجي يجلس على الأرض يقرأ كتابًا عن أولاد النبي، وعيناه في تلك اللحظة على اسم إحدى بنات النبي، وقبل أن يسمع إذا ما كان قد رُزق بذكر أم أنثى صاح قائلًا: “نسميها باسم بنت النبي، نسميها أم كلثوم”.
وفيما تقول أغلب المصادر إن أم كلثوم وُلدت في 31 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1898، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أنها وُلدت في عام 1904.
وكان والد أم كلثوم إمام قرية يؤدي الأناشيد الدينية التقليدية في الأعراس والأعياد لتغطية نفقاتهم. وتعلمت ابنته الغناء منه، وعندما لاحظ قوة صوتها، بدأ يأخذها معه، وهي ترتدي زي صبي لتجنب ازدراء عرض ابنة صغيرة على المسرح.
وصنعت أم كلثوم اسمًا لها في الغناء في مدن وقرى الدلتا المصرية، وعندما كانت مراهقة، أصبحت نجمة العائلة.
الانتقال للقاهرة
تحتوي هذه الصفحة على محتوى من موقع Google YouTube. موافقتكم مطلوبة قبل عرض أي مواد لأنها قد تتضمن ملفات ارتباط (كوكيز) وغيرها من الأدوات التقنية. قد تفضلون الاطلاع على سياسة ملفات الارتباط الخاصة بموقع Google YouTube وسياسة الخصوصية قبل الموافقة. لعرض المحتوى، اختر “موافقة وإكمال”
تحذير: بي بي سي غير مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية المحتوى في موقع YouTube قد يتضمن إعلانات
نهاية YouTube مشاركة
المحتوى غير متاح
YouTube اطلع على المزيد فيبي بي سي ليست مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية.
في وقتٍ ما من عام 1923، انتقلت العائلة إلى القاهرة، التي كانت مركزًا رئيسيًا لعالم الترفيه المربح والإنتاج الإعلامي الناشئ في الشرق الأوسط، حيث بدأت أم كلثوم في تطوير أدائها الفني بمساعدة مجموعة من الملحنين المميزين، مثل الشيخ أبو العلا محمد وداوود حسني.
وفي هذه الفترة، بدأت تكتسب شهرة واسعة بفضل صوتها العذب وأدائها المتقن. ولم يكن صوت أم كلثوم وحده هو الذي ميزها، بل أيضًا ذكاؤها الفني وقدرتها على اختيار الأعمال التي تتماشى مع ذوق الجمهور.
وفي عام 1926، غيرت أم كلثوم من مظهرها وتخلّت عن العباءة والعقال وارتدت الأزياء الحديثة، وكونت فرقة من العازفين على رأسهم محمد القصبجي.
ويقول المؤرخ حسين فوزي إن القاهرة كانت حينئذٍ مدينة عالمية تُقدَّم فيها المسرحيات الفرنسية والأوبرا العالمية. وقد واجهت أم كلثوم هذه الثقافة الدولية بأسلوب غنائي مصري عربي متطور، كان مزيجًا من العناصر العربية والغربية، التي تمثلت في الكلمات والموسيقى العربية ممزوجة ببعض الآلات الغربية مثل الكمان.
وقد تم توثيق هذه السنوات المبكرة في مسيرة أم كلثوم الفنية في سلسلة من 8 أسطوانات أصدرها نادي الأسطوانة العربي في فرنسا. وقد أدرج إلفيس كوستيلو، المغني وكاتب الأغاني البريطاني، هذه المجموعة ضمن “ألبوماته الـ 500 الأساسية لحياة سعيدة”، التي أصدرها في مجلة فانيتي فير في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2000.
يُذكر أن هناك روايات تشير إلى أن نادي الوداد المغربي اتخذ اسمه تيمّنًا بالفيلم المصري.
وفي عام 1937، رتّبت بذكاء لبث حفلاتها الشهرية عبر الإذاعة على الهواء مباشرة، وكان الجميع تقريبًا يتابعون بثها. ومع تزايد قوة المحطة، زاد عدد جمهورها، ومع ظهور الترانزستور، وصلت إلى أصغر القرى المصرية.
وبحلول ذلك الوقت، كانت قد انتقلت من أداء الأناشيد الدينية إلى غناء الألحان الشعبية، غالبًا باللهجة العامية وبصحبة فرقة تقليدية صغيرة. وأصبحت معروفة بأدائها للأغاني العاطفية التي كتبها أبرز الشعراء وكتاب الأغاني آنذاك.
كانت أم كلثوم في أوج تألقها خلال الأربعينيات من القرن الماضي، حيث قدّمت أغاني الحب العامية، كما غنّت شعرًا أنيقًا ومتطورًا باللغة العربية الفصحى، محمّلًا بالصور التاريخية والدينية. وكان الكثير من أعمالها في هذا الوقت من ألحان زكريا أحمد، مثل أغنية “أنا في انتظارك”.
تمتعت أم كلثوم بصوتٍ فاخرٍ من نوع كونترالتو قوي جدًا (أكثر الأصوات النسائية عمقًا وندرة)، والذي يصل إلى منتصف منطقة الميزو سوبرانو (الصوت متوسط النبرة للمرأة)، ويوجد في هذه المنطقة الصوتية 16 نغمة موسيقية.
وقد ساعد تدريبها على الإنشاد الديني وتلاوة القرآن في وقتٍ مبكرٍ من حياتها في تشكيل أسلوبها الفريد.
كما أنها تميّزت بقدرات هائلة على تغيير طبيعة الأداء الغنائي حسب الحاجة، فتصرخ حزنًا أو تهتف فرحًا، أو تتأوه ألمًا أو تغضب. وقد تضطر إلى الابتعاد عن الميكروفون، ويصاحب ذلك مشاعر جسدية قوية ورصينة وصادقة، وهي تهز منديلها الممسك بأصابعها التي لا تكفّ عن الاحتكاك ببعضها البعض.
لقد كانت أحبال أم كلثوم الصوتية قادرة على الاهتزاز حتى 14 ألف مرة في الثانية، وهو ما تطلّب منها الوقوف مبتعدة قليلًا عن الميكروفون.
وقال الناقد ويل هيرمس إن صوت أم كلثوم لا مثيل له في عالم الغناء، وقد مثّل روح العالم العربي لعقود، باعتباره الصوت الوحيد والفريد في العالم.
ولعل الباحث في صوت أم كلثوم يجد فيه الكثير من السمات الفنية التي تُبرر ظاهريًا المكانة الرفيعة التي تتمتع بها “الست”، ولكن هذه المواصفات ليست وحدها المسؤولة عن تشكيل هذه الظاهرة، بل هناك عوامل تتعلق بشخصيتها وذكائها كان لها تأثير كبير فيما وصلت إليه.
فقد تميزت مسيرة أم كلثوم بتعاونها مع أبرز شعراء وملحني عصرها، مما ساهم في إنتاج مجموعة من الأعمال التي أصبحت من أعمدة التراث الموسيقي العربي. فقد عملت مع أحمد شوقي في أغنيات خالدة مثل “سلوا كؤوس الطلا”، كما تعاونت مع الملحن رياض السنباطي، الذي شكّل معها ثنائيًا استثنائيًا أخرج العديد من الروائع، مثل “الأطلال” و”رباعيات الخيام”. ولاحقًا، انضمت إلى هذه القائمة أسماء كبيرة مثل محمد عبدالوهاب في أغنيات شهيرة كـ”أنت عمري”.
وتقول فيرجينيا دانييلسون، الباحثة في مجال الموسيقى، إنه من العدل تشبيه موسيقى أم كلثوم بالبلوز من حيث الطريقة التي مزجت بها بين الإنشاد الديني وقصائد الحب الكلاسيكية والأغاني بالعامية المصرية. كما تضمنت أيضًا الطرب، وهي صفة فريدة من نوعها للموسيقى العربية، والتي يمكن ترجمتها على أفضل وجه إلى كلمة “نشوة”.
ومن جانبه، يقول حبيب حسن توما، الملحن الفلسطيني المتخصص في علم موسيقى الشعوب: “إن شدة الطرب تعتمد في المقام الأول على صوت المغني وأسلوب أدائه، كما تجسّده أم كلثوم. وكثيرًا ما كانت عروضها تتبع تقريبًا التنظيم الإيقاعي الزمني الثابت للحن، ثم تُجرد بعض المقاطع اللحنية من شكلها الإيقاعي الصارم من أجل تكرار وتنويع وإعادة صياغة المقاطع الفردية بطريقة ارتجالية. وهكذا كان عرضها يحوم بين ما قدّمته وما ارتجلته بنفسها، مما يخلق بشكل عام توترًا يستحضر صعوده وهبوطه الطرب في المستمع، وهذا أكثر ما يلفت الانتباه في فن أم كلثوم”.
أم كلثوم والسياسة
كانت شهرة أم كلثوم قد بدأت في عهد الملك فؤاد الذي غنت له “حفظ الهوى”، وضمن أبياتها “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا، ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا”. وكان ذلك بداية علاقتها بالأسرة المالكة في مصر.
وقد دأبت على الغناء في عيد ميلاد الملك فارق، الذي خلف والده فؤاد على عرش مصر في عام 1937.
وفي عام 1944 منحها الملك فاروق وسام الكمال، الذي يُمنح للأميرات فقط، لتصبح صاحبة العصمة وذلك عندما استعاضت في حفل حضره في ليلة العيد عن بعض أبيات أغنية “يا ليلة العيد” بأبيات أخرى لمدح الملك.