يقول الناس إنهم لا يبحثون عن الحُزن، لكن عاداتهم عبر الإنترنت تقول خلاف ذلك، والدليل هو رواج أيّ محتوى حزين عبر منصات الإنترنت. فما سرّ هذا الرواج؟
سواءً كنتَ ضمن حملة تضليل معلوماتيّ مدعومة، أو كنت صانع محتوى يحاول تضخيم الأمور، أو كنتَ شركة تحاول تسويق منتَج- إذا كنت أياً من هؤلاء، فثمة طريقة واحدة مُجرَّبة لكسب متابعين أو لكسب المال إلكترونياً: هي أن تثير لدى المتلقّي شعوراً بشيء ما.
ولطالما تعرّضتْ منصات التواصل الاجتماعي للانتقادات، بسبب تشجيعها صُنّاع المحتوى على استثارة مشاعر متابعيهم.
لكن هذه الانتقادات تميل إلى التركيز على ذلك النوع من المحتوى الذي يستهدف إغضاب الناس من أجل التفاعل مع منشور، فيما يطلق عليه عادة اسم “الإغواء بالغضب”.
وفي 2024، حصد صُنّاع المحتوى على منصة تيك توك مئات الملايين من المشاهدات عبر الاستعانة بنوع كئيب من الفيديوهات يُدعى “كوركور”.
سوما باسو، صحفية استقصائية وباحثة بجامعة تامبيري في فنلندا، تدرس كيف تنتشر المنشورات سواء كانت ملفات صوتية أو فيديوهات رقمية عبر الإنترنت.
ويدرك صُنّاع المحتوى أن جمهورهم يتصفّح عددا لا نهائيا من الفيديوهات المتدفقة لحظياً، ومن ثم يمكن أن ينصرف هذا الجمهور عنهم إلى أيّ من هذه الفيديوهات.
ولكي يُبقي صُنّأع المحتوى على متابعة جمهورهم، يعمدون إلى اللجوء للجذب العاطفي الواضح والمُلحّ، حسبما ترى سوما، التي ترى أنّ لصُوَر الحزن، على وجه الخصوص، قدرةً كبيرة على إزالة الفواصل بين الجمهور والمحتوى، ما يهيئ الفرصة أمام تواصُل من نوع خاص.
كما أن الإغواء بالحُزن لا يعني دائماً أن يبدو صانع المحتوى حزيناً. وثمة شكل آخر من أشكال الإغواء بالحزن رائجٌ عبر منصتَي إنستغرام وتيك توك، وتشيع في هذا الشكل عروض القطط المرسومة بالذكاء الاصطناعي التي تواجه مصيراً مأساوياً، على سبيل المثال.
ولا يحتاج الإغواء بالحزن، بالضرورة، إلى تصوير مشاعر إنسانية حقيقية.
وانتشرت صورة صُمّمت بالذكاء الاصطناعي، تصوّر ضحيّة خيالية للعاصفة هيلين في الولايات المتحدة، محققة مشاهدات عالية. وتعليقاً على ذلك، قال صُنّاع محتوى تأثيري ينتمون لليمين السياسي، بل وقال سياسيون جمهوريون إنه “لا أهمية” لكون الصورة خيالية وليست حقيقية طالما أنها لقيتْ تفاعُلا واسعا من جانب الناس.
وسواء كان الأمر حقيقياً أم لا، الناس يحبّون الانغماس في مشاعرهم.
الخوارزميات وحجم التفاعُل مع المنشورات
يعكف الباحثون على تحليل المحتوى الذي ينطوي على شحنة كبيرة من المشاعر عبر الإنترنت، سواء كان هذا المحتوى معلومات مغلوطة أو صور شخصيات تعبيرية “الميمز”.
وتبحث الخوارزميات في هذه المنصّات عن تلك المنشورات التي تحقق أعلى مُعدّلات من حيث التفاعُل، محسوبةً بمُدة الوقت المستغرق في الاطّلاع على المنشورات، وبمعدلات التعليق على تلك المنشورات، فضلا عن معدلات مشاركتها مع مستخدمين آخرين.
ومن المنطقي أن يتفاعل مستخدمو الإنترنت، وهُواة مشاهدة الأفلام ومن قبلهم جمهور قراءة الكتب، مع المحتوى الحزين الذي يفيض بالمشاعر. وبدورِها ترصد الخوارميات مثل هذا المحتوى وتكافئ صانعه.
وعلى منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، يتلقى صُنّاع المحتوى مدفوعات مالية بناء على حجم تفاعُل الجمهور مع منشوراتهم.
ولا يقتصر الإغواء بالحزن على إستثارة المشاعر، وإنما يمكن لهذه الاستراتيجية أن تقدّم وسيلة للإحساس بهذه المشاعر أو استكشافها بالأساس، وفقاً لنينا لوتز، الباحثة في مجال المعلومات المضلّلة بجامعة واشنطن.
تقول نينا: “لا أظن الأمر مجرّد تفاعُل مع المحتوى فحسب؛ لكن هذا المحتوى يمكن أن يمثّل أحياناً ساحة لقاء لأولئك الأشخاص الذين تجمعهم اهتمامات وتجارب مشتركة”.
وثمة حسابات تقول إن “أصحابها متاحون للتواصل معهم عند الحاجة”.
وتشير نينا إلى أن استخدام المنشورات عبر منصات التواصل الاجتماعي كمساحة للحديث عن المشاكل هو تقليد قديم “فالناس يسعون إلى التواصل حتى في الأماكن غير التقليدية”.
ومع ميل الناس إلى الحديث عن حياتهم الشخصية في التعليقات على الفيديوهات التي تنطوي على مشاعر حزينة، تنجذب إليهم عيونُ الرُقباء والخوارزميات.
دروس في البكاء
ساحة التفاعُل هذه، تكثر فائدتها في المجتمعات الي تنظر إلى مشاعر الحزن باعتبارها عيباً، بحسب الصحفية الاستقصائية والباحثة سوما باسو.
وعبر تلك المنصات، عثرت سوما على “فيديوهات للنواح”، وفيها يعمد صانع المحتوى إلى تحريك شفتيه على نحو متزامن مع مقطع صوتي من فيلم أو أغنية أُعيد نشره عبر منصة تيك توك.
وكان هذا النوع من المحتوى النائح رائجاً في الهند قبل حظر تطبيق تيك توك في سنة 2020.
ونظراً لما حققه هذا النوع من المحتوى من نجاح، يمكنك عزيزي القارئ أن تجد فيديوهات لتعليم صُنّاع المحتوى كيف يبكون.
وبعد تطبيق حظر تيك توك، انتقل كثيرون من صُنّاع هذا المحتوى النائح الرائج إلى تطبيق إنستغرام.
تقول سوما إن “مشاهدة الناس يعبّرون عن مشاعر خاصة نادراً ما كانوا يُطلعون أحداً عليها” تثير نوعاً من الفضول الرقميّ والتلصُّص من جانب الجمهور، وحُبّ الاستعراض والظهور من جانب صُنّاع المحتوى.