لوحِظت منذ النصف الأول من القرن العشرين، زيادة هائلة في عدد الوفيات بسرطان الرئة في العالم الغربي، تزامنًا مع ظهور السجائر الجاهزة.
حصل المطور الأمريكي، جيمس ألبرت بونساك، على براءة اختراع آلة لفّ السجائر عام 1881، مما أحدث ثورة في عالم التدخين.
قبل ذلك، لم يكن استهلاك التبغ شائعًا، واقتصر على استخدام الغليون أو السيجار المملوء بالتبغ، نظرًا لحجمه وسمكه الكبير، وكان كلاهما حكرًا على الرجال.
كانت تكلفة السجائر الملفوفة يدويًا، وعلى رأسها السيجار، باهظة الثمن نسبيًا، مما حدّ من القدرة الإنتاجية.
ففي عام 1950، كانا أول من توصل إلى وجود ارتباط كمي وعضوي بين التدخين أو قطران السجائر وسرطان الرئة، وذلك وفق ما جاء في تقريرهما الذي يُعدّ علامة فارقة في طريق إثبات ضرر التدخين على الصحة.
لقد دقّا ناقوس الخطر باستنتاجهما وجود علاقة سببية بين التدخين وسرطان الرئة، كما أشارا إلى تأثيره المدمر على بعض أعضاء الجسم الأخرى، ورجّحا أن الاستمرار فيه يزيد من خطر الوفاة.
تم وضع مجموعة من الأطباء تحت البحث، لكون جمع البيانات منهم كان أسهل، فيما عُرف لاحقًا بـ “دراسة الأطباء البريطانيين”.
استقبل الأطباء المشاركون استبيانات دورية على مدى طويل امتد حتى عام 2001. لم يكن بإمكان دول وهيل أن يتخيلا أن البحوث حول دراستهما ستستمر لخمسين عامًا، لكنها ترسخت مع مرور الوقت، وأصبحت تعتمد على براهين علمية قوية وبيانات شاملة ومتوازنة يمكن الاستفادة منها في المجال العلاجي.
مع بداية دراسة الأطباء، وهي أول دراسة مستقبلية حول التأثير الممتد للتدخين، أرسل دول وهيل في مطلع عام 1951 استبيانًا حول عادات التدخين إلى جميع الأطباء في المملكة المتحدة، حيث أجاب عليه 59,600 طبيب وطبيبة. لكن تم استبعاد بيانات من هم دون سن 35 عامًا والنساء، نظرًا لأن سرطان الرئة كان نادر الحدوث في هذه الفئات.
لا يزال الرجال حتى الآن الفئة الأكثر عرضة للإصابة بسرطان الرئة عالميًا، إلا أن هذا التفاوت بين الجنسين يوشك على التلاشي، وفقًا للبيانات الحديثة. كما يُعد سرطان الرئة من أخطر وأشد أنواع السرطانات فتكًا، حيث يتحمل جزءًا كبيرًا من إجمالي وفيات السرطان السنوية، وفقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية لعام 2024.
في السنوات الأخيرة، بدأ المرض في الظهور بين فئات عمرية أصغر، لكن الأرقام تشير إلى أن متوسط العمر عند تشخيص سرطان الرئة لا يزال في حدود 70 عامًا، كما أن انتشاره نادر بين من هم دون سن 35 عامًا. وتشير البيانات إلى أن 10% فقط من الحالات تُسجَّل لدى من هم تحت سن 55 عامًا، مع ميل لاكتشاف المرض في مراحله المتقدمة لدى الفئات الأصغر سنًا، مما يقلل من فرص نجاتهم، وفقًا لموقع “فيري ويل هيلث” (VeryWell Health) الأمريكي.
كشفت ورقة بحثية تعود لعام 1991، أُجريت في سياق استكمال ما عُرف بـ “دراسة الأطباء البريطانيين”، أن معدلات الوفيات المرتبطة بالتدخين تضاعفت خلال النصف الثاني من الدراسة، التي امتدت لخمسة عقود، مقارنة بالنصف الأول منها.
أما عن متوسط العمر المتوقع للمصابين بسرطان الرئة، فهو عامان أو أقل، رغم أن بعض العلاجات قد تساعد في إطالة العمر وتحسين جودة الحياة. ومع ذلك، يظل سرطان الرئة أحد أكثر السرطانات فتكًا إذا لم يتم علاجه مبكرًا.
كما أنه لا يوجد مستوى آمن من التدخين، فحتى تدخين سيجارة واحدة يوميًا على مدار الحياة قد يجعلك عرضة لأنواع السرطانات المرتبطة بالتدخين، وفقًا للمعهد الوطني للسرطان في الولايات المتحدة.
بدأت السجائر في غزو المجتمعات منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع دخولها إلى أسواق جديدة، تصاعدت الحملات الإعلانية والترويجية لها بشكل مكثف، مما أدى إلى زيادة كبيرة في الإنفاق على دعاية السجائر، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع ارتفاع استهلاكها.
ساهمت تكلفة السجائر المنخفضة وسرعة انتشارها عبر التفاعل بين الشعوب في وصفها بأنها أشبه بوباء عالمي.
توضح منظمة الصحة العالمية في أحد تقاريرها، أن الجهود المكثفة لمكافحة التبغ في الدول الصناعية، بما في ذلك رفع الأسعار، والحد من الإعلانات، والتقليل من ظهور التدخين في وسائل الإعلام، وفرض قوانين تقيد الاستهلاك، إلى جانب تعزيز سياسات الهواء النظيف للحد من أضرار التدخين السلبي، قد أثمرت إلى حدّ ما في الحد من معدلات التدخين خلال العقود القليلة الماضية، وإن لم تتمكن أي دولة حتى الآن من القضاء عليه تمامًا.
ربما دفعت هذه النجاحات الجزئية شركات التبغ إلى تحويل استراتيجياتها نحو العالم النامي، الذي يفتقر في الغالب إلى سياسات صحية صارمة، مما يجعله سوقًا واعدة لتسويق منتجات التبغ، وسط التزام سياسي محدود بمكافحة الظاهرة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
حاليًا، يتفوق عدد الدول النامية على الدول الصناعية في قائمة البلدان الأكثر استهلاكًا للتبغ.
ومن أبرز الأضرار المرتبطة باستمرار التدخين في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، أن زراعة التبغ تتركز بالكامل تقريبًا في هذه الدول، ما يؤدي إلى آثار بيئية واجتماعية سلبية جسيمة، مثل إزالة الغابات، وعمالة الأطفال، وغيرها من المشكلات.
كما أن التدخين السلبي يمثل خطرًا إضافيًا في هذه الدول، حيث ينتشر التدخين في الأماكن المغلقة، خاصة داخل المنازل، مما يزيد من التعرض للمواد الكيميائية السامة المنبعثة من السجائر، وما يترتب على ذلك من مخاطر صحية.
حتى الآن، الإحصائيات غير مشجعة ولا يوجد ما يشير لانحسار ذلك الوباء قريباً في ظل نمو السكان العالمي وغياب الإجراءات المنسقة الشاملة التي تنفذ بفاعلية وفي ظل عدم الحد من تأثير كلِ من حملات التسويق الشرسة وجماعات الضغط كفئة تستفيد من الدفاع عن مصالح تجار التبغ.
على سبيل المثال، تشارك العديد من دول العالم العربي في نظام الترصد العالمي للتبغ (GTSS)، لكن القليل منها يستخدم المعطيات التي يتيحها للتخطيط لاستجابة مناسبة لوباء التدخين ولمكافحته. كما وأن آفة تدخين النرجيلة (المعروفة أيضًا باسم الشيشة أو الأرجيلة او المداعة) في المنطقة هو ولاشك عامل محفز لارتفاع نسب المدخنين.
وتتوقع منظمةُ العمل ضد التدخين والصحة البريطانية والتي تعرف اختصاراً بـ(ASH)، أن تستمر ظاهرة التدخين في تعميق مستويات الفقر في الدول النامية، ما لم تكن هناك ضوابط كافية في مكانها.
فتاوى التحريم تاريخية
كانت الأرجيلة مع الشبك من الأدوات الأساسية الأولى التي استخدمها العالم الشرقي في تدخين التبغ قبل اختراع السجائر المصنعة، مقارنةً بالغليون (أنبوب خشبي) في الغرب، الذي تم نقله إلى هناك عبر السكان الأصليين في أمريكا.
كان اكتشاف السكان الأصليين لأمريكا لنبات التبغ حدثًا عرضيًا، حيث دخنوه في مناسبات مختلفة، حتى بلفه في لفائف أوراق غير مستوية الصنع على غرار السيجار، وأدخلوه في عقاقيرهم التقليدية وطقوسهم الدينية، وفقًا للتقارير التي وردت عنهم.
لكن في الواقع، واجه التبغ معركة شاقة لقبوله في الشرق، حيث لم يُنتقل إليه إلا بعد اكتشاف كريستوفر كولومبوس للعالم الجديد، ثم تم حمله إلى الأوروبيين أولًا في القرن السادس عشر الذين تعرفوا عليه قبل بقية العالم.
سعت أوروبا لزراعة التبغ في أراضيها، وانتشر التبغ في جميع أنحاء العالم بعد فترة قصيرة بفضل البحارة البرتغاليين والأسبان الذين كانوا يبحرون عبر البحار حاملين سلعة التبغ. وتوسعت تجارة التبغ أيضًا مع حملات الاستعمار التي شملت مناطق مختلفة من العالم، إلا أنه لم يصبح منتجًا شعبيًا إلا بظهور السجائر في صورتها الحالية.
في محاولتنا لتتبع هذه الظاهرة تاريخيًا، وجدنا أن الفقهاء الدينيين في الإمبراطورية العثمانية استقبلوا التبغ بحذر وحيطة في نهاية القرن السادس عشر.
وكان هناك فرمان ضد “غواية” التدخين عام 1633 في عهد السلطان مراد الرابع، لكن قيوده لم تمنع الناس من التدخين، بل اتجهوا للقيام بذلك سرًا.
وفي عهد خليفته السلطان إبراهيم (1640-1648) تم رفع الحظر، لكنه فرض ضريبة على استخدام التبغ. ومع مرور الوقت، أصبح التبغ جزءًا من الحياة اليومية والاجتماعية في أوساط واسعة من الجمهور الشرقي، وتم زراعته محليًا في أرجاء الإمبراطورية العثمانية اعتبارًا من أواخر القرن السابع عشر، كما حدث في آسيا وأفريقيا.
ويُروى أن من بين أقدم فتاوى تحريم التدخين تلك التي صدرت في المغرب، حيث وصلت “تلك العشبة الخبيثة المسماة تبغة”، كما ورد في كتاب “نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي”، في عهد السلطان أحمد المنصور.