حبوب منع الحمل: هل تؤثر على مخ المرأة وصحتها النفسية، وتدفعها إلى حد “التفكير في الانتحار”؟

تشعر بعض النساء بالقلق إزاء كيفية تأثير حبوب منع الحمل على صحتهن النفسية، فهل توجد أدلة علمية تدعم صحة هذه المخاوف؟

استخدمت سارة إي هيل، على غرار العديد من الشابات، حبوب منع الحمل خلال السنوات الأخيرة في مرحلة المراهقة ومعظم عقدها الثالث، وتقول هيل، التي تعمل باحثة وأستاذة في علم النفس التطوري بجامعة تكساس المسيحية في الولايات المتحدة: “لم يخطر ببالي إطلاقا أن أشكك في الأمر”، إلا أنها، وبعد مرور 12 عاماً على بدء استخدامها للحبوب، أدركت حقيقة جديدة عندما غيّرت وسيلة منع الحمل.

وشهدت السنوات الماضية زيادة مخاوف النساء بشأن الآثار الجانبية لحبوب منع الحمل، خاصة فيما يتعلق بتأثيرها على مزاج المرأة وصحتها النفسية، كما حظيت تلك القضية بردود فعل واسعة، تجلّت بوضوح على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لاقت وسوم مثل “التخلي_عن_وسائل_منع_الحمل” انتشاراً واسعا بين الملايين، وثمة اعتقاد أن هذا الحراك قد يمثّل أحد العوامل التي أدت إلى تراجع شعبية حبوب منع الحمل خلال السنوات الماضية.

كما سجلت معدلات استخدام حبوب منع الحمل تراجعاً ملحوظاً في العديد من الدول المتقدمة، ففي إنجلترا، أفادت خدمات الصحة الجنسية والإنجابية بتراجع نسبة النساء اللاتي يعتمدن على حبوب منع الحمل من 39 في المئة خلال الفترة 2020-2021 إلى 27 في المئة خلال الفترة 2021-2022.

استجابة بطيئة

فعندما ظهرت حبوب منع الحمل أول مرة في الولايات المتحدة عام 1960، بلغ عدد المستخدمات لها 1.2 مليون سيدة في غضون عامين فقط، ومثلّت هذه الأقراص الصغيرة ثورة في قطاع تنظيم النسل، إذ رحبت بها النساء باعتبارها رمزاً للتحرر الجنسي وتعزيز دور المرأة، مما أتاح لهن التحرر من القلق بشأن حدوث حمل غير متوقع قد يعيق مسيرتهن المهنية أو الأكاديمية.

وأصبحت حبوب منع الحمل الآن الخيار الأكثر شيوعاً لدى نحو 150 مليون سيدة في شتى أرجاء العالم، وهو ما يمثل نحو 16 في المئة من إجمالي مستخدمات وسائل منع الحمل عالمياً، إذ تتمتع هذه الوسيلة بمعدل فشل منخفض لا يتجاوز واحد في المئة، وقد يصل إلى 9 في المئة بسبب الأخطاء البشرية، مثل نسيان بعض السيدات تناول الجرعة أحيانا.

ويوجد نوعان من حبوب منع الحمل، كلاهما يحتوي على هرمونات جنسية اصطناعية، النوع الأول يعرف بـ “الحبّة المركبة”، وهي الأكثر استخداماً، وتحتوي على أنواع اصطناعية من هرموني الأستروجين والبروجستيرون، أما النوع الثاني فيعرف بـ “الحبة الصغيرة” ويحتوي فقط على هرمون البروجستيرون.

ويعمل كلا النوعين بطرق متعددة لمنع الحمل، تشمل خفض عملية التبويض وزيادة كثافة مخاط عنق الرحم، الأمر الذي يعرقل رحلة الحيوانات المنوية ويمنعها من الوصول إلى البويضة.

بيد أن تأثير هرمونات حبوب منع الحمل لا يقتصر على جسم المرأة فحسب، بل يمتد ليترك أثرا عميقاً على المخ أيضاً.

وعلى مدار 65 عاماً من انتشار حبوب منع الحمل، كانت التحذيرات الطبية بشأنها نادرة للغاية، بل إن بعض مقدمي خدمات الصحة الجنسية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة لا يأتون مطلقاً على ذكر تأثيراتها النفسي على مواقعهم الإلكترونية.

ويوضح بيتزر، الذي يعمل في هذا المجال لنحو 40 عاماً، أن “المشكلة الأساسية تكمن في أن تدريب أطباء التوليد وأمراض النساء لا يأخذ في الاعتبار التدريب على الصحة النفسية للمرأة، إذ تُعتبر من اختصاص الأطباء النفسيين”.

ويضيف أن الأمور بدأت تتغير تدريجياً، لكنه يلفت إلى أنه في الماضي “كنا نركز في حديثنا، عند مناقشة استخدام حبوب منع الحمل، على موضوعات مثل الجلطات، السرطان، حدوث نزيف غير منتظم، وزيادة الوزن، في حين أن موضوع الصحة النفسية كان يُستبعد إلى حد كبير”.

ولم يُجر الباحثون سوى القليل من الدراسات بشأن الآثار النفسية المحتملة لحبوب منع الحمل، لكن بحسب بيتزر، فقد بدأ التغيّر في هذا المجال عام 2016، عندما نشر فريق دنماركي دراسة رائدة بشأن الموضوع، مهدت الطريق أمام إجراء المزيد من الدراسات في سنوات لاحقة.

كما خلص فريق بحثي آخر إلى نتائج مماثلة، في عام 2023، بعد أن درسوا السجلات الصحية لرُبع مليون سيدة ضمن قاعدة بيانات البنك الحيوي في المملكة المتحدة، وهو أرشيف ضخم يضم معلومات وراثية وطبية، وكشفت الدراسة أن السيدات اللواتي استخدمن حبوب منع الحمل مثّلن الفئة الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة 71 في المئة مقارنة بمن لم يستخدمن حبوب منع الحمل إطلاقاً، وذلك بعد عامين من بدء استخدامهن لهذه الوسيلة.

ويقول أويفيند ليديغارد، اختصاصي الأوبئة الطبية في مجال التوليد وأمراض النساء بجامعة كوبنهاغن، الذي أشرف على الدراسة الدنماركية إنه “يوجد ارتباط زمني واضح بين البدء في استخدام هذه المنتجات وظهور أعراض الاكتئاب فيما بعد”.

نتائج متضاربة

وتشير بعض الدراسات إلى نتائج تتعارض مع العلاقة المفترضة بين حدوث بعض الاضطرابات النفسية واستخدام حبوب منع الحمل، فعلى سبيل المثال، عندما راجع باحثون في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية 26 دراسة سابقة، تبين لهم أن العلاقة بين وسائل منع الحمل التي تحتوي على هرمون البروجستيرون فقط وحدوث الاكتئاب “طفيفة للغاية”.

وجدير بالذكر أن أخذ “فترة راحة” من تناول حبوب منع الحمل، كما يوصي الأطباء لمدة سبعة أيام شهرياً بالنسبة للعديد من أنواع الحبوب المركبة، قد يسهم في تدهور الحالة النفسية، بحسب بعض الدراسات.

ففي دراسة أُجريت عام 2023، شملت 120 سيدة في النمسا يستخدمن هذه الحبوب، بعضهن استخدمنها لفترة طويلة، أفادت المشاركات بأنهن شعرن بارتفاع في معدلات القلق بنسبة 7 في المئة خلال فترة التوقف عن الاستخدام، إلى جانب زيادة بنسبة 13 في المئة في المشاعر السلبية و24 في المئة في الأعراض النفسية.

وتقول بيليندا بلتزر، خبيرة متخصصة في علم الأعصاب الإدراكي بجامعة سالزبورغ، التي ترأس مشروعاً يدعمه الاتحاد الأوروبي لاكتشاف تأثير حبوب منع الحمل على مخ المرأة: “إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية الصحة النفسية، فقد يكون الاستخدام المستمر لموانع الحمل خياراً أكثر نفعاً”.

ولا تستبعد بلتزر احتمال أن تعاني بعض النساء من آثار نفسية سلبية أثناء استخدامهن حبوب منع الحمل، مشددة على ضرورة التعامل مع هذه الأعراض بجدية، بيد أنها تضيف: “على الرغم من ذلك، فإنهن يشكّلن نسبة صغيرة فقط من النساء”.

وترى هيلينا كوب كالنر، طبيبة أمراض النساء والتوليد في مستشفى دانديدريد في ستوكهولم، أن التباين الكبير في نتائج الدراسات بشأن التأثيرات النفسية لحبوب منع الحمل، يعود ببساطة إلى طبيعة الحالات نفسها، نظراً لأن المشكلات النفسية تُقاس غالباً بطرق ذاتية، مما يجعل دراستها أمراً بالغ التعقيد.

ويوضح بيتزر أن طبيعة المؤشرات التي يعتمدها الباحثون عند إنهاء دراستهم تلعب دوراً حاسماً في تحديد النتائج، مشيراً إلى أنه في الدراسة الدنماركية على سبيل المثال: “لا يعني مجرد وصف مضادات الاكتئاب للمريضة أنها تعاني من الاكتئاب، بل قد يكون الأمر متعلقاً بأسلوب الطبيب في العلاج، مما يجعل دقة القياسات النهائية موضع إشكال”.

وتقول صوفيا زيتيرمارك، الطبيبة المقيمة في السويد، إن إثبات العلاقة السببية بين استخدام وسائل منع الحمل الهرمونية والتغيرات المزاجية للمرأة يعد أمراً بالغ الصعوبة في الدراسات القائمة على الرصد، وذلك لوجود عوامل أخرى قد تؤثر على النتائج، مثل العوامل الوراثية والبيئة المحيطة.

وتفسر أنها وجدت أثناء تحليل السجلات الصحية لنحو مليون سيدة ضمن السجلات الوطنية السويدية، أن السيدات اللواتي ينتمين إلى فئات منخفضة الدخل ومن خلفيات مهاجرة، هن الأكثر حساسية تجاه تغيرات المزاج عند استخدام وسائل منع الحمل الهرمونية.

ويقول ليديغارد إن دراسته لابد أن تُفهم ضمن سياق أوسع، مضيفاً أنه “لا شك أن بعض السيدات اللواتي يبدأن في استخدام وسائل منع الحمل الهرمونية يواجهن تغييرات حادة في صحتهن النفسية، لكن من الضروري الإشارة إلى أن النسبة لا تتجاوز 7 إلى 8 في المئة ممن يتعرضن لمشكلات نفسية حادة تدفعهن إلى حد التوقف عن استخدامها، في حين أن الغالبية العظمى من النساء اللواتي يستخدمن هذه الوسائل لا يعانين من أي اضطراب نفسي شديد”.

لا شك أن بعض النساء يجدن أن فوائد حبوب منع الحمل تفوق أي آثار جانبية قد تنجم عنها، فإلى جانب كونها وسيلة ذات كفاءة عالية في منع الحمل، قد يكون للحبوب المركبة وحبوب البروجستيرون فقط تأثيرات إيجابية أخرى على الصحة.

وتقول كوب كالنر إنه “بالنسبة لمن يعانين من بطانة الرحم المهاجرة، أو النزيف الشديد، أو اضطراب ما قبل الحيض الاكتئابي – وهو صورة حادة ومؤلمة من متلازمة ما قبل الحيض – قد تكون هذه الحبوب وسيلة فعّالة للتخفيف من حدة الأعراض”.

تغيير كيمياء المخ

والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تنشأ هذه التأثيرات على الصحة النفسية، وما أسبابها؟

 

المصدر: BBC