ما هي أهمية المفكّرة الألمانية حنّة آرنت في السياق السوري بعد سقوط نظام الأسد؟

لنتخيّل المشهد التالي: في أحد أيام السنوات الخمسين الماضية، في غرفةٍ معتمة داخل أحد السجون – سيئة السمعة – التابعة للنظام السوري السابق، يجلس ضابط متوسط الرتبة يتفحّص قائمة الأسماء.

لا يسأل عن سبب وجود أولئك المعتقلين، ولا يهتم بمعرفة ما إذا كانوا مذنبين أم أبرياء. وظيفته واضحة: الموافقة على جولة الاستجواب المقبلة – والتي من المرجّح أنها ستتضمّن أساليب تعذيب معتادة أو جديدة – وضمان سير العملية “بسلاسة”، ثم الانتقال إلى المهمة التالية.

بعد سنوات طويلة وبطيئة، سوف يسقط نظام آل الأسد، وسيُسأل هذا الضابط كيف استطاع الإشراف على تعذيب آلاف المعتقلين بشكلٍ منهجي. قد يهزّ كتفيه ويقول ببساطة: “كنتُ فقط أنفّذ الأوامر”.

عندئذٍ، سيعرف من كان قد اطلع ولو قليلاً على كتابات المفكّرة الألمانية حنة آرنت أنه أمام تجسيدٍ آخر لمفهومها الشهير عن “تفاهة الشرّ” الذي ابتكرته في عملها على تغطية محاكمة الألماني أدولف آيخمان، المسؤول عن تنظيم عمليات الترحيل إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية.

وربما كان الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج صالح من أوائل الكتّاب الذين استعانوا بآرنت في السياق السوري واستخدموا عدستها لفهم الواقع المعقّد في سوريا.

حنّة آرنت (1906-1975) هي مفكرة سياسية ألمانية – أمريكية من عائلة يهودية، اشتهرت بتحليلها لأنظمة الحكم الشمولي (التوتاليتارية) وفهمها لطبيعة السلطة والشر في العصر الحديث.

يعد كتابها أصول الشمولية (1951) من أبرز الدراسات حول الأنظمة الاستبدادية، حيث قارنت فيه بين النازية والستالينية، وسعت إلى تفسير كيف تتحول الدول الحديثة إلى أنظمة شمولية تُخضع الشعوب بالكامل عبر مزيج من الإيديولوجيا، والبيروقراطية، والعنف المنهجي.

في كتابها “حنة أرنت: حيوات نقديّة”، تقول الأكاديمية الأمريكية سامانثا روز هيل: “تُظهر لنا أرنت كيف نفكّر في العالم من جديد، كيف نحرّر أنفسنا من تقاليد الفكر السياسي الغربي، كيف نتحمّل مسؤولية أفعالنا، كيف نفكر نقدياً من دون الخضوع للإيديولوجيا. فقط عندما نفعل هذا، تقول، سنتمكن من حب العالم”.

في ما يلي أبرز أفكارها:

“تفاهة الشرّ” مقابل “الشرّ الجذري”

لعلّ أشهر مفهوم ابتكرته آرنت وأكثر أفكارها شعبيةً كان مفهوم “تفاهة الشرّ”.

ويمكن القول إنّ أهم ما حقّقه هذا المفهوم هو أنه قدّم حجّةً ضد اختزال الشرّ بشيطنة أو وحشية معيّنة لدى المجرم؛ حيث يبيّن هذا المفهوم أن ارتكاب الشرّ ليس فعلاً محصوراً بعالم الأشرار أو بالأشخاص “الوحوش”.

ليس الشرّ بالضرورة فعلاً معزولاً وبعيداً، مرتبطاً بعطبٍ ما أو بحالة خاصة، وليس المجرمون كما صوّرتهم السينما بمعظمها، أدهياء وماكرين ويتمتعون بذكاء منقطع النظير.

طرحت آرنت في كتابها “آيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر” (1963) مفهوم “تفاهة الشر” لوصف الظاهرة التي جسدها أدولف آيخمان أثناء محاكمته في إسرائيل عام 1961.

كان هذا المفهوم محاولة لفهم كيف يمكن للأشخاص العاديين، أن يرتكبوا جرائم مروعة لمجرد امتثالهم للأوامر واندماجهم في البيروقراطية القاتلة. لاحظت أرنت أن آيخمان لم يكن شخصية شريرة استثنائية، بل مجرد موظف بيروقراطي عادي، بدا متفانياً في تنفيذ الأوامر من دون تفكير نقدي أو إدراك لحجم الفظائع التي ساهم فيها. لقد كان، كما وصفته، “عادياً بشكلٍ رهيب ومرعب”.

في ابتكارها لهذا المفهوم، كانت آرنت أيضاً تراجع طرحها الخاص في كتاب “أصول التوتاليتارية” حيث استعارت مفهوم “الشرّ الجذري” من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لوصف المحرقة النازية. بالنسبة لآرنت، يجعل الشرّ الجذري البشر كائنات بشرية “فائضة عن الحاجة”، مثلما حدث في الهولوكوست.

وكان كانط قد كتب عن “الشرّ الجذري” في كتاب “الدين في حدود مجرّد العقل” (1763). ويوضح دارسون عديدون لفلسفة كانط أن الشرّ الجذري عنده لم يكن يعني الشر المطلق أو الرهيب كما قد يُفهم من الوهلة الأولى. فمصطلح “الجذري” هنا يعني أن سلوك الإنسان قد يكون فاسداً من الجذور حينما لا يُعامَل القانون الأخلاقي كقاعدة مطلقة، بل كأمر يمكن تبريره أو التنازل عنه تبعاً للظروف والمصالح الشخصية.

وهنا جوهر الاختلاف بين “تفاهة الشرّ” و”الشرّ الجذري”؛ فالأول يرتكبه الأفراد نتيجة للسطحية وانعدام التفكير والنزعة إلى الطاعة العمياء، في حين أن الشر الجذري يشير إلى فساد أخلاقي عميق حيث يختار الأفراد الشر بوعي عبر تفضيل مصلحتهم الشخصية على القانون الأخلاقي، ما يجعل الشر خياراً مقصوداً بدلاً من مجرد امتثال.

تعرضت آرنت لانتقادات لاذعة بسبب هذا الطرح، خصوصاً أنها يهودية، إذ اعتبرها البعض متساهلة تجاه آيخمان أو حتى ملقية باللوم على الضحايا اليهود لعدم مقاومتهم بشكل كافٍ، غير أن جوهر فكرتها لم يكن تبرير أفعال آيخمان، بل الإشارة إلى أن الأنظمة القمعية قادرة على تحويل البشر إلى أدوات لتنفيذ الشر من خلال فرض الطاعة العمياء وإلغاء القدرة على التفكير النقدي.

وبسبب الهجوم الواسع الذي تعرّضت له واتهامها من قبل البعض بأنها “معادية للسامية” و”يهودية كارهة لنفسها”، ظلّت أعمالها من دون ترجمة عبرية حتى عام 1999، تاريخ ترجمة أول عمل لها إلى اللغة العبرية.

“آرنت في سوريا”: نظرة ياسين الحاج صالح

كتب الباحث السوري ياسين الحاج صالح سلسلة مقالات عن آرنت في موقع الجمهورية السوري بين عامي 2019 و2021.

والحاج صالح هو مفكر وكاتب ومعارض سوري بارز لنظام الأسد، ويُعدّ من أبرز المثقفين الذين تناولوا الثورة السورية وتحولاتها.

وقد اعتُقل في عام 1980 عندما كان طالباً في كلية الطب، بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وقضى في سجون النظام 16 عاماً.

زوجته، الكاتبة والناشطة سميرة الخليل، اختُطفت عام 2013 في دوما مع الناشطين رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي فيما يُعرف بقضية “مخطوفي دوما الأربعة”، ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.

كما أشار أيضاً إلى فكرة آرنت عن كيفية استخدام التكنولوجيا لارتكاب الشر بشكل مبتذل أو عادي، كما ظهر في الهولوكوست وفي الحروب الحديثة: “التكنولوجيا تجعل قتل الأفراد وتحقيق القوة العسكرية أسهل وأكثر طبيعية في السياسة الحديثة، مما يقلل من الإحساس بالذنب والمراجعة الإنسانية”.

ويوضح الحاج صالح أن الشر، حسب حنة آرنت، ليس مجرد أفعال عنف أو قمع، بل هو ما كان يمكن تجنبه ولم يكن له ضرورة، سواء من الناحية العسكرية أو حتى من منظور المصالح الشخصية لمرتكبيه. فالشر، في هذا السياق، لا ينبع من دوافع قوية أو أهداف لا بد منها، بل من قرارات تعسفية أو طاعة عمياء.

ويؤكد مع آرنت أن “أفعال الشر ليست مقصورة على الأشخاص الأشرار أو المنحرفين، بل يمكن لأي شخص أن يصبح شريراً بممارسة الشر، مثلما يصبح المدخن مدخناً بمجرد ممارسة التدخين”.

ويقول إنه في السياق السوري، “وقع العديد من الأفعال التي كان يجب ألا تحدث، والتي لم يكن مرتكبوها مضطرين لها. في العديد من الحالات، كان هناك طابع طوعي وإبداعي للشر، ما يثير القلق”.

ويوضح أنه “كما في حالة داعش، حيث كان الشر متفنناً ومعقداً وغير ضرورياً، فإن الشر الأسدي كذلك يتمتع بطابع إبداعي، بخاصةٍ في التعذيب الذي يعكس فناً خاصاً وذاكرة موضوعية للشر. على عكس البيروقراطية النازية، التي حوّلت الشر إلى صناعة موت جماعية، كان الشر الأسدي أقرب إلى فن إبداعي ومرتبط بممارسات حميمية كالتعذيب والاغتصاب”.

 

المصدر: BBC