يعد الرقم القياسي لأطول مدة لرحلة فضائية 437 يوماً، لكن الفترات الطويلة التي يقضيها الناس في الفضاء قد يكون لها أثر بالغ على أجسام رواد الفضاء إلى حدٍ مذهل؛ فعضلاتهم تتغير كما يشهد نشاط الدماغ لديهم تغييراً ملحوظاً وحتى بكتيريا الأمعاء يطالها التغيير.
ولم يكن رائدا الفضاء سوني ويليامز وبوتش ويلمور يخططان للبقاء لمدة تسعة أشهر في الفضاء، إذ كان من المقرر أن تستغرق رحلتهما الأولى إلى محطة الفضاء الدولية على متن مركبة بوينغ ستارلاينر ثمانية أيام فقط في يونيو/ حزيران 2024. ولكن بسبب مشكلات فنية في المركبة الفضائية أدت إلى عودتها إلى الأرض بدونهما، طالت مدة إقامتهما في الفضاء أكثر من المتوقع.
بالطبع، كلاهما ليس جديداً على صعوبات السفر عبر الفضاء، فهما رائدا فضاء متمرسان. لكن يُرجح أن الفترة الطويلة التي استغرقتها رحلتهما في بيئة الفضاء الغريبة منخفضة الجاذبية قد أثرت على جسميهما. وحتى نعرف إلى أي مدى بلغ هذا الأثر، علينا أن ندرس حالات مكثت في الفضاء لفترة أطول.
وكانت أطول رحلة فضائية قام بها أمريكي لرائد الفضاء فرانك روبيو الذي أمضى 371 يوماً على مجموعة من الوحدات والألواح الشمسية بحجم ملعب كرة قدم أمريكي؛ هي محطة الفضاء الدولية.
وبغض النظر عن مشكلات الحفاظ على اللياقة البدنية، فما الذي تحدثه الرحلات الفضائية من تغييرات في جسم الإنسان؟
العضلات والعظام
بدون سحب الجاذبية المستمر لأطرافنا، تبدأ كتلة العضلات والعظام في التناقص بسرعة في الفضاء. وأكثر العضلات تأثراً هي تلك التي تساعدنا على الحفاظ على وضعية الجسم في الظهر والرقبة والساقين والعضلات رباعية الرؤوس – فوسط انعدام الجاذبية، لا تحتاج هذه العضلات إلى بذل جهد كبير ومن ثم تضمر . وبعد أسبوعين فقط، قد تتقلص كتلة العضلات بنسبة تصل إلى 20 في المئة، وفي البعثات الفضائية الأطول التي تتراوح مدتها بين ثلاثة إلى ستة أشهر، قد تتراجع كتلة العضلات بحوالي 30 في المئة.
بنفس الطريقة، ولأن رواد الفضاء لا يعرضون هياكلهم العظمية لضغط حركي كبير كما هو الحال عند تعرضها لجاذبية الأرض، فإن عظامهم تفقد المعادن وتفقد بعض قوتها أيضاً. يمكن أن يفقد رواد الفضاء ما بين 1 إلى 2 في المئة من كتلة العظام شهرياً أثناء وجودهم في الفضاء، وما يصل إلى 10 في المئة على مدار ستة أشهر (على الأرض، يفقد كبار السن من الرجال والنساء كتلة عظامهم بمعدل 0.5 إلى 1 في المئة سنوياً). وقد يزيد هذا من خطر إصابتهم بالكسور ويطيل مدة التعافي منها. كما يمكن أن تستغرق كتلة العظام حوالي أربع سنوات حتى تعود إلى وضعها الطبيعي بعد عودتهم إلى الأرض.
ولتفادي هذه الآثار الضارة، يمارس رواد الفضاء تمارين رياضية مكثفة لحوالي ساعتين ونصف الساعة يومياً أثناء وجودهم في مدار محطة الفضاء الدولية. يشمل ذلك سلسلة من تمارين القرفصاء، والديدليفت، والتجديف، والضغط باستخدام جهاز تمارين مقاومة مُثبّت في صالة الألعاب الرياضية بمحطة الفضاء الدولية، إلى جانب تمارين منتظمة باستخدام جهاز المشي ودراجة التمرين. كما يتناولون مكملات غذائية للحفاظ على صحة عظامهم قدر الإمكان.
رغم ذلك، أشارت دراسة حديثة إلى أن هذا النظام الرياضي لم يكن كافياً لمنع فقدان وظائف العضلات وحجمها. وأوصت باختبار ما إذا كانت الأحمال العالية في تمارين المقاومة والتدريب المتقطع عالي الكثافة قد تساعد في مواجهة تناقص كتلة العضلات.
وقال روبيو: “أعتقد أن عمودي الفقري تمدد بما يكفي لدرجة أنني أصبحت محصوراً في بطانة مقعدي، لذلك لا ينبغي لي أن أتحرك كثيراً على الإطلاق”.
فقد الوزن
الرؤية
على الأرض، تساعد الجاذبية على دفع الدم في أجسامنا للأسفل بينما يضخه القلب مجدداً إلى أعلى. أما في الفضاء، فتتعطل هذه العملية (مع أن الجسم يتكيف إلى حد ما)، وقد يتراكم الدم في الرأس بكميات أكبر من المعتاد. وقد تتراكم كمية من الدم في مؤخرة العين وحول العصب البصري، مما يؤدي إلى “الوذمة” (احتباس كمية زائدة من السوائل داخل أنسجة الجسم). وقد يؤدي هذا إلى تغيرات في الرؤية، مثل انخفاض حدة البصر وتغيرات هيكلية في العين نفسها. وقد تبدأ هذه التغيرات في الظهور بعد أسبوعين فقط من الإقامة في الفضاء، ولكن مع مرور الوقت، يزداد الخطر. وتتراجع بعض تغيرات الرؤية في غضون عام تقريباً من عودة رواد الفضاء إلى الأرض، لكنهم قد يستمرون في المعاناة من بعضها الآخر.
وقد يؤدي التعرض للأشعة الكونية المجرية والجسيمات الشمسية النشطة أيضاً إلى مشكلات أخرى في العين. ويساعد الغلاف الجوي للأرض على حمايتنا من هذه المشكلات. لكن بمجرد الوصول إلى مدار محطة الفضاء الدولية، تتلاشى هذه الحماية. في حين أن المركبات الفضائية قادرة على حمل دروع واقية للمساعدة في حجب الإشعاع الزائد، أفاد رواد الفضاء على متن المحطة الدولية أنهم رأوا ومضات ضوئية في عيونهم عند اصطدام الأشعة الكونية والجسيمات الشمسية بشبكية العين والأعصاب البصرية.
بعد إقامته الطويلة على متن محطة الفضاء الدولية، تبين أن أداء كيلي الإدراكي لم يتغير كثيراً، وظل نسبياً كأداء أخيه على الأرض. مع ذلك، لاحظ الباحثون أن سرعة ودقة أداء كيلي الإدراكي انخفضت لمدة ستة أشهر تقريباً بعد هبوطه، وربما بسبب تكيف دماغه مع جاذبية الأرض ونمط حياته المختلف تماما بعد عودته.
وكشفت دراسة أجريت على رائد فضاء روسي، أمضى 169 يوماً على متن محطة الفضاء الدولية عام 2014، عن بعض التغيرات في الدماغ نفسه، على ما يبدو، أثناء وجوده في الفضاء. وتوصلت الدراسة إلى وجود تغيرات في مستويات الترابط العصبي في أجزاء من الدماغ تتعلق بالوظيفة الحركية – أي الحركة – وكذلك في القشرة الدهليزية، التي تلعب دوراً مهماً في التوجيه والتوازن وإدراك حركتنا. وربما لم يكن ذلك مفاجأة نظراً للطبيعة الخاصة لانعدام الوزن في الفضاء؛ إذ يتعين على رواد الفضاء تعلم كيفية التحرك بكفاءة دون جاذبية لتثبيت أنفسهم على أي شيء والتكيف مع عالم لا يوجد فيه صعود ولا هبوط.
وأثارت دراسة حديثة مخاوف بشأن تغيرات أخرى في بنية الدماغ قد تحدث أثناء البعثات الفضائية الطويلة. فقد تتضخم تجاويف الدماغ المعروفة بالبطينين الجانبي الأيمن والثالث (المسؤولين عن تخزين السائل النخاعي، وتوفير العناصر الغذائية للدماغ، والتخلص من الفضلات) وتستغرق فترة تصل إلى ثلاث سنوات لتعود إلى حجمها الطبيعي.
البكتيريا النافعة
يتضح من الأبحاث التي أُجريت في السنوات الأخيرة أن مفتاح الصحة الجيدة يكمن في تكوين وتنوع الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في أجسامنا وعليها. ويمكن لهذه الكائنات الحية الدقيقة أن تؤثر على كيفية هضم الطعام، ومستويات الالتهاب في أجسامنا، بل وتؤثر أيضاً على طريقة عمل أدمغتنا.
واكتشف الباحثون، الذين تولوا مسؤولية فحص كيلي بعد رحلته إلى محطة الفضاء الدولية، أن البكتيريا والفطريات التي تعيش في أمعائه قد تغيرت بشكل كبير مقارنةً بما كانت عليه قبل تلك الرحلة. ربما لا تكون هذه مفاجأة على الإطلاق نظراً لاختلاف الطعام الذي كان يتناوله والتغير الذي طرأ على الأشخاص الذين كان يقضي أيامه معهم (نحصل على كمية هائلة من الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء والفم من الأشخاص الذين نعيش معهم). لكن التعرض للإشعاع واستخدام المياه المعاد تدويرها، بالإضافة إلى تغيرات نشاطه البدني، ربما كانت من العوامل التي لعبت دوراً في تغيرات البكتيريا النافعة.
البشرة
رغم أن هناك خمسة من رواد الفضاء التابعين لناسا أمضوا أكثر من 300 يوماً في الفضاء، إلا أننا نجدد الشكر لكيلي على تحليله الدقيق لحالة بشرته أثناء وجوده هناك. فقد تبين أن بشرته ظلت تعاني من حساسية شديدة وطفح جلدي لحوالي ستة أيام بعد عودته من محطة الفضاء. وتكهن الباحثون بأن نقص تحفيز البشرة أثناء تلك البعثة ربما يكون قد أسهم في شكواه الجلدية.
الجينات
وقالت سوزان بيلي، أستاذة الصحة البيئية والإشعاعية في جامعة ولاية كولورادو الأمريكية، والتي شاركت في الفريق الذي أجرى دراسة على كيلي وشقيقه: “الأمر الأكثر جذباً للانتباه هو اكتشاف تيلوميرات أطول بكثير خلال رحلات الفضاء”. وأجرت سوزان دراسات منفصلة مع عشرة رواد فضاء آخرين غير مرتبطين ببعضهم البعض، والذين شاركوا في مهام أقصر مدةً حوالي ستة أشهر.
وأضافت: “كان من غير المتوقع أن يتراجع طول التيلوميرات بسرعة عند العودة إلى الأرض لدى جميع أفراد الطاقم. وهناك أمر بالغ الأهمية على مستوى الصحة على المدى الطويل ومسارات الشيخوخة، والذي يتمثل في أن رواد الفضاء بصفة عامة يتراجع طول التيلوميرات الخاصة بهم إلى حدٍ كبيرٍ بعد الرحلات مقارنةً بما كانت عليه قبلها”.
وقد يكون أحد الأسباب المحتملة لذلك هو التعرض لمزيج معقد من الإشعاع أثناء وجودهم في الفضاء، وفقاً لسوزان التي أكدت إن رواد الفضاء الذين يتعرضون له تظهر لديهم علامات تلف في الحمض النووي.
كما رصدت بعض التغيرات في التعبير الجيني، وهو الآلية التي تُفسر الحمض النووي لإنتاج البروتينات في الخلايا، لدى كيلي، والتي ربما كانت مرتبطة برحلته إلى الفضاء. ويرتبط بعض هذه التغيرات باستجابة الجسم لتلف الحمض النووي، وتكوين العظام، واستجابة الجهاز المناعي للتوتر. إلا أن معظم هذه التغيرات عادت إلى طبيعتها في غضون ستة أشهر من عودته إلى الأرض.
وفي يونيو/ حزيران 2024، سلطت دراسة جديدة الضوء على بعض الاختلافات المحتملة بين طريقة استجابة الجهاز المناعي لرواد الفضاء من الذكور والإناث لرحلات الفضاء. وباستخدام بيانات التعبير الجيني من عينات جُمعت من طاقم مهمة “سبيسإكس إنسبيريشن 4″، الذين أمضوا أقل من ثلاثة أيام في الفضاء في خريف 2021، حددت الدراسة تغيّرات في 18 نوعاً من البروتينات المرتبطة بالجهاز المناعي والشيخوخة ونمو العضلات.
وبمقارنة نشاطهم الجيني بنشاط 64 رائد فضاء آخرين في مهام سابقة، توصلت الدراسة إلى أن التعبير الجيني لثلاثة بروتينات يلعب دوراً مختلفاً في الالتهاب مقارنةً بما كان عليه قبل الرحلة. وكان الرجال أكثر حساسيةً لرحلات الفضاء، مع ازدياد اضطراب نشاطهم الجيني، واستغرقوا وقتاً أطول للعودة إلى حالتهم الطبيعية بعد عودتهم إلى الأرض.
وتوصل الباحثون إلى أن النشاط الجيني لاثنين من البروتينات – يُعرفان بـ”إنترلوكين-6″ الذي يساعد على التحكم في مستويات الالتهاب في الجسم و”إنترلوكين-8″ الذي يُنتج لتوجيه الخلايا المناعية إلى مواقع العدوى – على وجه التحديد كان أكثر تأثراً لدى الرجال مقارنةً بالنساء. كما تأثر بروتين آخر يُسمى “فيربرينوجين”، وهو مسؤول عن تخثر الدم، بشكل أكبر لدى رواد الفضاء الذكور.
لكن الباحثين أكدوا أنهم ما زالوا بحاجة إلى معرفة السبب وراء كون النساء أقل حساسية لهذه التأثيرات الخاصة لرحلات الفضاء. فقد يكون ذلك مرتبطاً باستجابتهن للتوتر.
وتعرضت رائدة فضاء ناسا بيغي ويتسون لتغيرات في جسمها بسبب وجودها في الفضاء. وقضت ويتسون 675 يوماً في الفضاء، وهو ما يتجاوز المدة التي قضاها أي أمريكي هناك، مع أن الرقم القياسي العالمي يحمله حالياً رائد الفضاء الروسي أوليغ كونونينكو الذي أمضى 878 يوماً في بعثة فضائية.
وتم تحصين كيلي بسلسلة من اللقاحات قبل رحلته الفضائية وأثناءها وبعدها، وتبين أن جهازه المناعي يستجيب بشكل طبيعي. لكن بحث بيلي كشف أن رواد الفضاء يعانون من انخفاض في عدد خلايا الدم البيضاء يتناسب مع جرعات الإشعاع التي يتعرضون لها أثناء وجودهم في الفضاء.