شوارع شبه خالية من البشر والسيارات، محلات ومصانع ومكاتب مغلقة، ملايين البشر قابعون في منازلهم، اقتصادات وأنظمة صحية مثقلة بضغوط غير مسبوقة – لقد تغيرت حياة ملايين البشر بين عشية وضحاها.
كان هذا هو المشهد المتكرر في كثير من بلدان العالم في مارس/آذار عام 2020، عندما فُرضت إجراءات الإغلاق لمواجهة التفشي الوبائي لفيروس كوفيد-19 الذي خلف وراءه العديد من الآثار والندوب.
تجربة جائحة كورونا، التي تسببت في وفاة الملايين عبر أنحاء الكوكب، جعلت خبراء كثر في الطب والصحة العامة، وحتى أشخاص عاديين، يشعرون بالقلق والترقب لاحتمال تفشي مرض معد جديد.
فما الدروس التي تعلمناها من تلك الأزمة؟ وهل أصبحنا أكثر استعدادا للجائحة القادمة؟
وبرزت أهمية وجود بنية تحتية صحية قوية قادرة على الصمود في وجه الطوارئ، وازدادت أهمية الأبحاث والتجارب العلمية ووسائل رصد العوامل المُمْرضة الناشئة للمساعدة في التصدي للأوبئة والجوائح.
وتضيف أن “ما تعلمناه من كوفيد هو أن التعامل الحاسم مع أي فيروس خطير، والتدخل المبكر، هما على الأرجح الخيار الأكثر فعالية من حيث التكلفة. وما تعلمناه أيضا هو أهمية وضع نماذج للسيناريوهات الخطيرة، إذ لسنا بحاجة إلى أن نمر بتلك الجوائح المروعة ونفقد آلاف أو ملايين الأرواح، لأن لدينا نماذج رياضية يمكن أن تتنبأ بتلك السيناريوهات مسبقا. هذه النماذج يمكن أن تستخدم للتنبؤ بالفعالية الاقتصادية لإجراءات مثل الإغلاقات واللقاحات”.
ألقت جائحة كوفيد-19 كذلك الضوء على أهمية الحصول على معلومات من مصادر موثوقة، وخطورة المعلومات المضللة، وأهمية التعاون بين الهيئات البحثية والطبية على المستوى الدولي.
الجائحة القادمة “مسألة وقت”
يرى كثير من العلماء أن الظروف الحالية لكوكبنا ترجح بشكل متزايد انتقال عدوى بكتيرية أو فيروسية من الحيوانات إلى البشر والتسبب في جائحة أخرى.
من بين تلك الظروف التغير المناخي والاحتباس الحراري. تقول الدكتورة إيلاريا دوريغاتي المحاضرة بكلية الصحة العامة بجامعة إمبيريال كوليدج لندن في حوار منشور على موقع الجامعة إن هناك أدلة على أن التغير المناخي يؤدي إلى اتساع الرقعة الجغرافية لانتشار أمراض يحملها البعوض، مثل زيكا وحمى الضنك، بحيث “ستنتقل إلى مناطق معتدلة الطقس، ومن ثم تجعل السيطرة عليها في غاية الصعوبة وتزيد من احتمال تفشي الأوبئة بشكل كبير”.
تقول الدكتورة ماريا فان كيرخوف القائمة بأعمال مدير التأهب للجوائح ومكافحتها بمنظمة الصحة العالمية لـ بي بي سي عربي إن السؤال ليس ما إذا كان العالم سيشهد جائحة أخرى، بل متى سيشهدها. وتضيف أن “الفيروسات التنفسية هي الأكثر احتمالا للتسبب في جائحة بسبب كفاءة انتقالها، لكن أي عامل مُمْرض جديد يمكن أن يؤدي إلى جائحة”.
وتلفت فان كيرخوف إلى أن “ثمة فيروسات تنفسية مثل الفيروسات التاجية، ولا سيما الإنفلونزا، التي تثير قلقنا بشكل خاص. النشاط المتزايد لفيروسات إنفلونزا الطيور في مملكتي الطيور والحيوانات، بما فيها الأبقار الحلوب، في الولايات المتحدة، يبعث على القلق، خاصة مع إصابة أنواع جديدة من الحيوانات، وانتقال الفيروسات إلى البشر”.
هناك العديد من العلماء الذين يتفقون مع فان كيرخوف على أن حدوث جائحة أخرى مسألة وقت. من بين هؤلاء البروفيسورة كارولين بَكي أستاذة علم الأوبئة بجامعة هارفارد التي أخبرتنا بأن “حدوث جائحة أخرى أمر حتمي، ولكن من الصعب التنبؤ بموعدها المحدد. الظروف التي تسهل نشوء عوامل مُمْرضة جديدة لم تتغير، بل في الحقيقة ربما نكون نواجه خطرا متزايدا نظرا لأن العديد من أنظمة المراقبة التي أُنشأت لاكتشاف العوامل الممرضة التي يُحتمل أن تؤدي إلى جائحة والتخفيف من حدتها يتم تفكيكها في الوقت الحالي”.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن جائحة كوفيد أثقلت كاهل النظم الصحية حول العالم، كما تبعها العديد من الأزمات والطوارئ الصحية – على سبيل المثال مرض جدري إمبوكس (جدري القردة سابقا) وفيروس ماربورغ وحمى الضنك والدفتيريا والحصبة والكوليرا.
هل أصبحنا في وضع أفضل؟
“نعم، ولا في نفس الوقت”، هكذا كانت إجابة الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس مدير عام منظمة الصحة العالمية في مقال نُشر في 11 مارس/آذار الحالي. وهكذا كانت أيضا إجابة الخبراء الذين تحدثت إليهم.
تقول الدكتورة فان كيرخوف إنه “تم تحقيق مكاسب كبيرة في القدرات والخبرات من خلال التعامل مع كوفيد من شأنها أن تساعد في المستقبل، لكن هذه المكاسب بحاجة إلى الاستمرار. إتمام الاتفاقية الخاصة بالتأهب والاستجابة للجوائح والالتزام بها سيساعد العالم ليس فقط على الاستعداد، بل أيضا إلى الاستجابة للتهديدات بشكل أفضل. ومع ذلك، يواجه قطاع الصحة العالمية تحديات عديدة بسبب التغييرات التي طرأت على التمويل، والصراعات والتوترات الجيوسياسية، والتراجع في الالتزامات السياسية تجاه برامج الرصد التابعة لنا، وهو ما سيجعل من الصعب أكثر من أي وقت مضى تنفيذ العمل اللازم لحماية العالم من تهديدات الجوائح”.
وتشير البروفيسورة بَكي إلى التقدم الذي شهدته بعض التقنيات، “على سبيل المثال، القدرة على إنتاج لقاحات على وجه السرعة باستخدام تكنولوجيا الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، فضلا عن التطورات التي شهدها مجال مراقبة مياه الصرف”. لكنها تضيف: “ومع ذلك، من نواح عديدة، لا نزال في نفس الوضع الذي كنا عليه في عام 2020 من حيث قدرة النظم الصحية والبنى التحتية على الصمود”.
أما البروفيسورة هوك فترى أنه “من الناحية الإيجابية، أصبحت الحكومات والمنظمات متعددة الأطراف أفضل تأهبا. فقد حسنّا طرق جمع البيانات والمراقبة وأطر التعاون القانونية والتنظيمية..والبنية التحتية اللازمة لتوفير الأدلة لصناع القرار. كما أصبح لدينا أدوات أفضل لتطوير النماذج، بما في ذلك نماذج تجمع بين الجوانب الصحية والاقتصادية لتقييم التأثيرات الأوسع للجوائح وإجراءات تخفيف آثارها على المجتمعات”.
وتضيف: “لكن ما أراه سلبيا هو زيادة الاستقطاب بين السكان وتراجع الثقة في السلطات، وهذا قد يؤدي إلى المزيد من التردد في تلقي اللقاحات والامتناع عن اتباع الإرشادات الصحية. هذا أمر يحزنني لأنه قد يكلف العديد من الأرواح عند وقوع الجائحة المقبلة. كما أنني أشعر بالقلق إزاء ضعف الحوكمة السياسية. أظن أنه في الوقت الراهن، يفتقر الكثير من البلدان إلى قيادة سياسية تتحلى بالقوة والكفاءة اللازمتين لشن دفاع فعال ضد تهديد العوامل المُمْرضة الناشئة”.
ماذا عن المنطقة العربية؟
يقول البروفيسور شادي صالح أستاذ نظم الصحة والتمويل والمدير المؤسس لمعهد الصحة العالمية بالجامعة الأمريكية في بيروت إن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “أفضل استعدادا من نواح عديدة، لكن لا يمكننا الحديث عن المنطقة ككيان واحد، لأنها في الواقع تتكون من ثلاث إلى أربع مجموعات مختلفة. يشمل ذلك الدول ذات الدخل المرتفع، والمتوسط والمنخفض، وربما فئة رابعة تعاني من الصراعات أو متأثرة بها. المجموعتان الأخيرتان ستستمران في مواجهة العديد من التحديات التي شهدناها خلال جائحة كوفيد-19، وينبغي أن يتركز الاهتمام عليها، خاصة من قبل المجتمع الصحي الدولي”. ومن بين التحديات التي أشار إليها صالح الاستثمار في القدرات المحلية، وسلاسل الإمداد القوية التي تقلل الاعتماد على الأسواق العالمية خاصة في وقت الأزمات.
من المكاسب التي تقول الدكتورة بلخي مديرة منظمة الصحة العالمية في إقليم شرق المتوسط إنها تحققت في الإقليم (الذي يشمل غالبية الدول العربية): “كانت هناك زيادة بنسبة 59 في المئة في مواقع الترصد وزيادة عدد المختبرات بنسبة 40 في المئة”، مشددة على أهمية الحفاظ على تلك المكاسب “وعدم نسيانها وإضعافها مرة أخرى بسبب عدم وجود جائحة”.