قد يبدو إلحاقك الأذى أو الألم بشخص آخر مسالم لا يستطيع أن يرد لك الصاع صاعين، قسوة لا تطاق، لكن اللافت أن ذلك الأمر يحدث بشكل يفوق ما يمكن أن تتصور.
لماذا يتعامل البعض بقسوة مع الآخرين ممن لا يشكلون تهديداً لهم، بما يشمل في بعض الأحيان أطفالهم؟ وما هو مصدر هذا السلوك، ولأي غرض يُمارس؟
في عام 1658، خَلُصَ الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال إلى أن البشر هم “مجد هذا الكون وغثاؤه وحثالته كذلك”. فنحن نحب ونكره، ونساعد الآخرين ونلحق بهم الضرر، ونمد لهم اليد بالسلام، ونطعنهم بالسكاكين.
ورغم أننا نتفهم، أن نجد شخصاً ما وقد استشاط غضباً، أو تصرف بشكل مندفع وعدائي، دفاعاً عن نفسه أو انتقاماً من شخص آخر، فإن الأمر يختلف إذا رأيناه يؤذي الآخرين دون مبرر، إذ قد نسأله وقتها باستنكار: “كيف تجرأت على ذلك؟”.
ثمة سبب ثالث، قد يقف وراء إيذائنا لأشخاص لم يبادروا بالإضرار بنا، وهو أننا نعتبرهم – رغم مظهرهم المسالم – تهديداً يُحدق بنا.
يمكننا تعريف الشخص السادي، بأنه من يستمتع بإيذاء الآخرين أو إذلالهم، ويشعر -أكثر من أي شخص آخر- بما يحسون به من آلام بسبب ذلك.
ومع أنه يُربط في الخيال الشعبي بين من يتصفون بالسادية ومن يمارسون التعذيب ويرتكبون جرائم القتل، فإن هناك نمطاً أقل تطرفاً من السادية، يشيع على نحو أكبر، ويُطلق عليه اسم “السادية التي تُمارس بشكل يومي”.
ويستمتع من يمارسون “السادية بشكل يومي” بإيذاء الآخرين، أو مشاهدتهم وهم يعانون. ومن هذا المنطلق، من المرجح أن يشعر هؤلاء بالمتعة لمشاهدة الأفلام الدموية، وأن يجدوا المعارك والمشاجرات مثيرة، وأن يعتبروا التعذيب ممتعاً.
ورغم ندرة عدد أولئك الأشخاص، فإنهم ليسوا قليلي العدد بما يكفي، فقرابة 6% من الطلاب الجامعيين، يقرون باستمتاعهم بإيذاء الآخرين.
وقد تجد من يمارسون هذه “السادية اليومية”، في صورة المتصيدين عبر شبكة الإنترنت، أو المتنمرين بزملائهم في المدرسة.
أما إذا انتقلنا إلى المضطربين نفسياً، أو من يُعرفون بـ “السايكوباتيين”، فسنجد أنهم لا يؤذون الأشخاص الآخرين المسالمين لمجرد استمتاعهم بذلك، رغم أن ذلك يشكل سببا محتملاً، ولكن لأنهم يريدون تحقيق هدف ما، من وراء تصرفات من هذا القبيل.
ويتسنى لهؤلاء “السايكوباتيين” التصرف على هذه الشاكلة، لأنهم أقل عرضة للإحساس بمشاعر مثل الخوف أو الندم أو الشفقة. ومع أن بمقدور أولئك الأشخاص، تحديد مدى الألم الذي يكابده الآخرون بسبب تصرفاتهم، فإن ذلك لا يؤدي إلى تأثرهم بهذه المعاناة بأي شكل من الأشكال، ما يعني أنهم “يتمتعون” بـ “مجموعة خطرة من المهارات”.
وعلى مدى القرون الماضية، روضت البشرية نفسها، ما جعل من العسير على الكثير من بنيها إلحاق الضرر والأذى بأقرانهم.
فالكثيرون ممن قد يُقْدِمون على إيذاء شخص آخر أو تعذيبه أو قتله، سيظلون فريسة لملاحقة هذه التجربة لهم، في المستقبل.
وبطبيعة الحال، يحتاج المرء منّا لمعرفة ما إذا كان يتعامل مع شخص من هذه الفئة أم لا. وقد يتسنى لنا تحديد ذلك بقدر عالٍ من الدقة، بمجرد النظر في وجه من نحادثه، أو من خلال التفاعل معه لفترة وجيزة.
لسوء حظنا، يدرك “المضطربون نفسياً” أننا قادرون على ذلك، ما يجعلهم يحاولون المقاومة والمراوغة، من خلال السعي بجد، لكي يبدو بمظهر جيد، وأن يتركوا انطباعا أول إيجابياً عنهم لدينا.
على الجانب الآخر، لا يعاني غالبية الأشخاص -لحسن الحظ- من هذه السمات “السايكوباتية”. فنسبة هؤلاء، لا تتعدى 0.5%.
لكن لا يتسم كل المضطربين نفسياً، بأنهم خطرون. إذ إن من ينفرون منهم من التواصل اجتماعياً مع الآخرين، يسعون للحصول على مشاعر الإثارة التي ينشدونها، عبر تعاطي المخدرات أو الانخراط في أنشطة خطرة.
أما “السايكوباتيون” الذين ينزعون للتصرف بشكل يفيد المحيطين بهم والمجتمع بوجه عام، فيحاولون نيل مشاعر الإثارة هذه، من خلال السعي الجسور وراء الأفكار الجديدة والمبتكرة.
ولذا فبمقدور هؤلاء تغيير العالم الذي نعيش فيه جميعاً، في ضوء أن الابتكارات هي العامل الذي يُشكِّل مجتمعاتنا حالياً. لكن علينا الإشارة هنا إلى أن التغيير الذي قد يُحْدِثه أولئك الأشخاص، قد يكون إيجابياً أو سلبياً.
لا يوجد من يعرف حقاً لماذا يصبح البعض منّا ساديين. فهناك من يرى أن السادية، تشكل آلية تكيف، ساعدتنا على ذبح الحيوانات، عندما كنا نعتمد على صيدها والتهام لحومها. بينما يشير آخرون إلى أن هذه الخصال، ساعدت من يتسمون بها، على نيل القوة والسلطة.
وفي يوم ما، قال المفكر والفيلسوف والدبلوماسي الإيطالي الشهير نيكولو مكيافيلي إن “الاضطرابات والفوضى من صنع الزمن لا البشر”.
واتساقاً مع ذلك، يرى علماء الأعصاب أن السادية، يمكن أن تُشكّل أسلوباً للبقاء على قيد الحياة، تطور بفعل مرور البشر بحقب وعصور، سادتها ظروف قاسية.
فعندما تصبح أغذية بعينها شحيحة، يتراجع مستوى ناقل عصبي يحمل اسم “سيروتونين”، يوجد في الجهاز العصبي المركزي.، يؤدي ذلك، إلى جعلنا أكثر رغبة في الإضرار بالآخرين وإيذائهم، لأن القيام بذلك يكون في هذه الحالة، ممتعاً بشكل أكبر.
في الوقت نفسه، يمكن أن يُشكِّل الاضطراب النفسي أو “السايكوباتية” تكيفاً بدوره.
في واقع الأمر، يمكن أن يزيد عدد من يعانون من هذه الاضطرابات، في ظل الأوضاع التنافسية غير المستقرة. فالقدرات التي يتمتع بها هؤلاء، تجعلهم أساتذة في التلاعب والمناورة. ويساعدهم اندفاعهم وجسارتهم، على الإقدام على مجازفات والحصول على مكاسب قصيرة المدى.
ولعل من شاهدوا فيلم “وول ستريت”، يتذكرون كيف نجحت الشخصية “السايكوباتية” التي كانت تحمل اسم “غوردون غيكو”، في كسب ملايين الدولارات.
لكن رغم أن التمتع بهذه الخصال، قد يعطي أصحابها ميزة في عالم المؤسسات والشركات، فإنه لا يوفر للرجال تحديداً، سوى ميزة محدودة على صعيد الحصول على مواقع قيادية.
ويقول عالم الرياضيات إريك واينشتاين في هذا الصدد، إن الأشخاص المزعجين بوجه عام، هم من يقودون حركة الإبداع والابتكار. لكن قيمة ذلك قد تتراجع، إذا كنت تعيش في بيئة تدعم من الأصل التفكير الإبداعي.
كما ترتبط السادية والسايكوباتية بخصال أخرى، مثل النرجسية والمكيافيلية. ويُطلق على هذه الصفات مجتمعة اسم “العامل المظلم في الشخصية”، أو اختصاراً بـ “العامل دي”.
فضلا عن هذا وذاك، هناك عامل وراثي يرتبط بهذه المسألة، يتراوح دوره ما بين كبير ومتوسط، ما يعني أن البعض قد يُولدون، وهم يحملون صفات من هذا القبيل، دون أن يكون لهم في ذلك، ذنب أو جريرة.
وبعيدا عن هذه المسألة الوراثية، قد ينقل الوالدان، اللذان تحمل شخصية كل منهما، قدراً كبيراً من ذاك “العامل المظلم”، صفاتهما السلبية تلك إلى صغارهما، من خلال التصرف معهم بشكل مسيء لهم.
وبالمثل، يمكن أن تؤدي رؤيتنا للآخرين، ممن يتصرفون بطرق يسلكها من يحملون هذا “العامل المظلم” بين جوانحهم، إلى أن نتعلم منهم التصرف على هذه الشاكلة. وهو ما يعني أن لكل منّا، دوراً يؤديه في الحد من مستوى القسوة في مجتمعاتنا.
الخوف والحط من مكانة الخصوم