وسط التطور الملحوظ للإنتاج السينمائي في الخليج، يأتي الفيلم الكويتي “وحش حولّي” كمحاولة جريئة لتحويل أحداث الجريمة الحقيقية إلى مادة سينمائية تشويقية من جهة، وكعمل يختبر حدود التمثيل الدرامي لوقائع صادمة من التاريخ الاجتماعي القريب من جهة أخرى. إذ يعيد الفيلم فتح ملف مجتمعي، وحدث هزّ الشارع الكويتي في 2008.
ينتمي “وحش حولّي” إلى فئة دراما الجريمة النفسية، ويستند إلى واقعة تركت أثرا عميقا في الذاكرة، مازجا بين سلسلة التحقيق البوليسي ومقاربات التأثير النفسي على الضحايا والمجتمع، وهو ما أتي مصحوبا بعدة أسئلة على رأسها: كيف يعاد توثيق الفزع دون تحويله إلى فرجة استهلاكية؟ وكيف تصان كرامة الضحايا بينما يتولد التشويق؟
اقرأ أيضا
list of 2 items
end of list
“وحش حولّي”.. من مسلسل إلى فيلم
ينتمي “وحش حولّي” جزئيا إلى مسلسل درامي أنتج هذا العام لصالح منصة “شاشا” الرقمية الكويتية، حيث تم تقديم القصة ضمن حلقتين للمسلسل الكويتي “وحوش”.
تضمن العمل 10 حلقات مستوحاة بأكملها من قضايا جنائية حقيقية هزت المجتمع الكويتي، على أن تعرض كل قصة خلال حلقتين أو ثلاث تسلط الضوء على الجريمة بأسلوب درامي يعكس الجوانب النفسية والاجتماعية لكل واقعة.
ومع نجاح العمل، قررت “نتفليكس” مؤخرا دمج الحلقات وتقديم كل حادث منفصل في صورة فيلم، وهو ما وفر للعمل حدود انتشار أوسع.
ورغم أن القصص تناولت أكثر من جريمة، فإن فيلم “وحش حولّي” كان من ضمن الأكثر مشاهدة وتداولا عبر منصات التواصل الاجتماعي لجرأة المحتوى وحساسية القضية.
تتمحور أحداث العمل حول مجرم يدعى “حجّاج” يتهم بالاعتداء الجنسي على 17 طفلا، و”وحش حولّي” إلى تحقيقات الشرطة المكثفة حول القضية ومحاولاتهم الإيقاع به.
نشاهد على مدار الفيلم حجاج يحكي قصته عبر “الفلاش باك”، وكيف جاء إلى الكويت، ثم بدأ باصطياد ضحاياه، مع الإشارة إلى بعض الأسباب التي حولته إلى ذاك “الوحش” معدوم الضمير الإنساني.
رهان على القصة الحقيقية
استمد “وحش حولّي” قوته من كونه يرتكز في جوهره على واقعة جرت بالفعل في منطقة حولّي في الكويت عام 2007، حيث ارتكبت سلسلة جرائم انتهكت براءة الأطفال. وهو ما شكل قوة جذب، إذ عادة ما يميل الجمهور إلى الاهتمام بالقضايا التي تعكس خوفا أو صدمة حقيقية، خاصة حين تتاح له فرصة تقصي الأحداث التي سبق وتناقلتها وسائل الإعلام بنفسه.
وقد ساهم الحضور القوي للفنان الكويتي بشار الشطّي -في دور المحقق- بلفت الانتباه، في حين نال إشادات واسعة من النقاد، كذلك أُثني على الممثل المصري محمد يوسف “أوزو” -في دور حجّاج- وساعدت المساحة الدرامية بين الشخصيتين المحوريتين -حيث صراع الواجب وتعري القسوة وهشاشة النفس البشرية- على منح الممثلين مساحات للانفعالات الدقيقة أحسنوا استغلالها وأكدت إجادة المخرج محمد سلامة إدارة طاقمه الفني.
“فخ” استعادة الألم
من بين إيجابيات العمل الأخرى الاقتصاد البصري في العنف والميل إلى الإيحاء دون فجاجة، تقديرا لحرمة الضحايا ومشاعرهم. وهو ما ساعد بالوقت نفسه على تأجج شعلة الخيال لدى المتلقي، وعززته اللوحة اللونية الباردة/الداكنة التي خلقت شعورا دائما بالمراقبة والذنب وحالة من اللا يقين.
كذلك أحسن صناع العمل اختيار زاوية السرد عبر تتبع خيوط التحقيق، واستدعاء الشهادات، وتقسيم الحكاية إلى مراحل تعقب وتجميع الأدلة والاستجواب، مما خلق بنية أشبه بمتاهة تقود المشاهد من الظن إلى اليقين تدريجيا، وصنع إيقاعا تصاعديا أتاح كشف الطبقات النفسية والدوافع لكل من جانب التحقيق، والضحية، والمجتمع المصاب بحالة من الذعر، وهو ما أثرى التجربة الفنية.
كل ما سبق جعل “وحش حولّي” يتوسط دائرة نقاش مجتمعية واسعة حول قضية شديدة الحساسية، ويساعد في رفع الوعي المجتمعي، وإن كان تسبب في استحضار قطاع من المشاهدين الصدمة المرتبطة بالقضية الأصلية، بينما أعاد آخرون فتح جروح قديمة ارتبطت بتجارب شخصية مشابهة مروا بها في الصغر، الأمر الذي اعتبره البعض جانبا سلبيا للعمل.
“وحش حولّي” وجدل مصري
أحدث العمل ردود فعل متباينة في مصر لعدة أسباب، تجمع بين الحساسية الاجتماعية، وقضايا الصورة الذهنية، والتمثيل الدرامي، خاصة أن منصة “نتفليكس” أتاحت عرض الفيلم في مختلف دول العالم، ولم يظل حبيس السياق المحلي كما كانت حال المسلسل الأصلي.
ويمكن تلخيص أبرز أسباب استياء بعض المصريين في الخوف من الوصم المجتمعي بحال لم يُستقبل الطرح بحياد، مما قد يؤدي إلى تكريس صورة سلبية عن الجاليات المصرية لدى من يعتمدون على الأعمال الفنية في بناء الصور الذهنية، خاصة مع حساسية القضية التي تمس إحدى أكثر الفئات ضعفا.
كما عبّر البعض عن انزعاجهم من إسناد شخصية الجاني إلى ممثل مصري (محمد يوسف “أوزو”) في مقابل ممثل كويتي قام بدور المحقق (بشار الشطّي)، الأمر الذي وجدوا فيه ترسيخا لصورة نمطية سلبية. كما لم يسلم المخرج المصري محمد سلامة من بعض الانتقادات.
في المقابل، وجد آخرون في اتهام “وحش حولّي” بترسيخ صورة نمطية سلبية عن الجاليات المصرية تناقضا، خاصة في ظل ما تقدمه الدراما المصرية نفسها من قضايا مشابهة، آخرها مسلسل “سفاح الجيزة”، ومسلسل “سفاح التجمع” الذي لم ينته العمل عليه بعد.
View this post on Instagram
ذاكرة لا تهدأ.. وسينما على الجرح
“وحش حولّي” فيلم أخرجه محمد سلامة، وكتبه فيصل البلوشي، وبطولة بشار الشطي، ومحمد يوسف “أوزو”، ونجح بتلمّس منطقة وعرة بين التوثيق الدرامي والسرد القصصي، لينجح في تقديم منتج محكم يوازن الإثارة مع المسؤولية قدر الإمكان.
يعد العمل تجربة فنية تستحق التوقف عندها ليس فقط كعمل تشويقي، وإنما كمسعى درامي يحاول أن يفكر في ما بعد الجريمة، وفي مسؤولية الفن تجاه الواقع. والأهم كقيمة توثيقية تعيد ترتيب ملفات ذاكرة عامة عبر وسيط فني، وتسهم في رفع الوعي الوقائي لدى الأهل والمؤسسات التعليمية.
وعلى الرغم من تميّز “وحش حولّي” بعددٍ من العناصر الفنية الإيجابية، فإنه ليس بمنأى عن النقد كليا، ولا يخلو من إمكانية التطوير. سواء في ما يتعلق بالمونتاج الذي احتاج قدرا من التشذيب في بعض المقاطع لتلافي فوارق الإيقاع والانتقالات، أو محدودية الخلفية الاجتماعية للجاني التي كان من الأفضل لو جاءت أكثر عمقا.
المصدر: الجزيرة