- لعنة الوسط: حياة معلّقة بين يقين وضباب
يمر على الإنسان، في بعض مراحل حياته، أوقات يجد نفسه فيها عالقًا في طريق لا أول له ولا آخر؛ أرضه موحلة بالانتظار، وسماؤه مثقلة بالأسئلة. يمشي مترددًا، يبحث عن يقين في فضاء لا يمنح إلا الضباب. تلك هي الحيرة التي لا تأتي كطعنة مفاجئة، بل كحبل ناعم يلتف حول العنق ببطء، يسلب أنفاس الروح شيئًا فشيئًا؛ فلا يتركك تنهار دفعة واحدة، لكنه يسرق منك القدرة على المضي، كما يسرق منك لذة التوقف.
إنها لحظة قاسية أن تعيش بين نصفين: نصف قلب يريد أن يمنح شغفه كاملًا، ونصف آخر يخشى أن ينكسر عند أول خسارة. نصف العقل يهمس بالمنطق، والنصف الآخر يغريك بالهاوية. وحين يتنازع النصفان، يصبح الكيان كله هشًا، كزجاج يتفتت من لمسة. ويخيّل إليك أن الوسط منطقة أمان، لكنه في الحقيقة هاوية صامتة؛ لا الفرح فيها يكتمل ولا الحزن ينضج، حتى الأحلام تأتي مقطوعة الأجنحة: لا تطير ولا تموت.
بينت دراسات نشرت في مجلة اضطرابات القلق أن التردد المستمر وعدم الحسم في القرارات يرتبطان مباشرة بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب
من الجانب الفلسفي
عبّر الفلاسفة عن هذا المأزق بأشكال شتى. قال سقراط: “الحياة غير الممحوصة لا تستحق أن تعاش”، وكأنه يشير إلى أن الحيرة بداية الطريق إلى الحكمة لا نهايته. أما نيتشه، فقد رأى أن أعظم العذابات أن يبقى المرء عالقًا في منطقة رمادية، لأن الوجود لا يحتمل الفراغ الطويل. فيما اعتبر كيركغارد، فيلسوف القلق والاختيار، أن “الإنسان يُدان بالحيرة”، وأن الخلاص لا يكون إلا بالقفز إلى الإيمان. هذه الأقوال ليست مجرد تأملات نظرية، بل صدى لما نعيشه حين نصبح أسرى منتصف بلا وجهة.
من الجانب الطبي
تُشخّص هذه الحالة اليوم باعتبارها شكلًا من أشكال القلق الوجودي. وقد أشار الطبيب النفسي فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى، في كتابه الإنسان يبحث عن معنى، إلى أن أخطر ما يصيب المرء ليس الألم، بل الفراغ الداخلي الذي لا يُملأ. كما بينت دراسات نشرت في مجلة اضطرابات القلق أن التردد المستمر وعدم الحسم في القرارات يرتبطان مباشرة بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب. إنها حياة نصفية بالفعل: جسد يتحرك وسط العالم، لكن قلبه معلق في مكان لا يُرى؛ كأنه طائر حُبس في قفص شفاف، يرى السماء أمامه ولا يقدر على لمسها.
لا يمكن إنكار قسوة العيش في منتصف معلّق. إنه أشبه بالوجود في هواء ثقيل؛ لا تصل فيه إلى الأرض ولا تلمس السماء. تشعر أن الزمن يطويك دون أن يمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك
من الجانب الديني
لا ينظر الدين إلى هذه الحيرة باعتبارها لعنة خالصة، بل امتحانًا يحمل في داخله رحمة مستترة. قال تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم” [البقرة: 216]، لتذكّرنا الآية أن ما نراه فراغًا قد يكون بابًا إلى ملء لا ندركه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك” (رواه أحمد والدارمي).
وكأن الحيرة ليست لعنة بقدر ما هي دعوة للرجوع إلى البصيرة الداخلية التي وهبنا الله إياها. وفي هذا السياق يقول ابن القيم: “متى أشرقت روحك بمحبة الله، أزهرت جوارحك بالطاعات”، أي إن اليقين لا يُطلب خارج النفس، بل يُستنبَت في القلب بالإيمان.
إذاً، فالحيرة ليست مجرد فراغ قاتل، بل طريق اختبار؛ توقظنا من غفلة اليقين السطحي، وتدفعنا للبحث عن يقين أعمق وأصدق. إنها تضعنا بين أمرين: إما أن نستسلم لأنصاف الطرق فنذوب شيئًا فشيئًا، أو نمتلك شجاعة الخطوة الكاملة فنكتشف أن الطريق الذي بدا بلا نهاية كان يحملنا إلى الله.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار قسوة العيش في منتصف معلّق. إنه أشبه بالوجود في هواء ثقيل؛ لا تصل فيه إلى الأرض ولا تلمس السماء. تشعر أن الزمن يطويك دون أن يمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك. كل قرار يبدو فخًا، وكل صمت يزداد ثقلًا حتى يتحول إلى صدى يجلجل داخلك. ومن يعيش طويلًا في هذا الوسط، يفقد تدريجيًا إحساسه بالزمن، كشمعة تستهلك ببطء؛ لا يُراد لها أن تنطفئ ولا أن تضيء.
لكن ماذا لو كان هذا العذاب نفسه طريقًا إلى الخلاص؟ من يخرج من دائرة الحيرة يولد من جديد، أكثر وعيًا بذاته، أشد تمسكًا بمعناه، وأقوى يقينًا بالله. لقد علمنا الدين أن اليقين ليس محطة في آخر الطريق، بل حقيقة تُزرع في القلب. وعلمتنا الفلسفة أن الأسئلة ليست نقمة، بل دعوة لرحلة أعمق. وبيّن لنا الطب أن مواجهة القلق أفضل من الهروب منه، وأن طلب العون عند الحاجة ليس ضعفًا، بل شجاعة لإنقاذ النفس.
في لحظة ما، لا تأتي الإجابة بصوت صاخب، بل كنسمة هادئة تعبر القلب. قد لا تمنح وضوحًا كاملًا، لكنها تبث طمأنينة كافية لاستمرار الرحلة
وهكذا، لا تعود الحيرة مجرد لعنة، بل جرس إنذار يطرق جدار القلب ليوقظه. وفي لحظة صمت طويلة، قد يشعر المرء أن الكلمات كلها تسقط، فلا يبقى إلا همس داخلي يشير إلى الطريق. عندها فقط يفهم أن اليقين لم يكن بعيدًا، بل كان ساكنًا فيه منذ البداية، ينتظر أن يُستعاد.
وفي لحظة ما، لا تأتي الإجابة بصوت صاخب، بل كنسمة هادئة تعبر القلب. قد لا تمنح وضوحًا كاملًا، لكنها تبث طمأنينة كافية لاستمرار الرحلة. وعندها، لا يعود الطريق بلا معنى، بل يتحول إلى رفقة خفية تسير بجوارك، تقول لك دون كلام: إنك أقرب مما تظن، وأن ما تحسبه ضياعًا ما هو إلا بداية ميلاد جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة