- ميلاد الأمل من رماد الحرب
في المقال الأول أخذنا القارئ إلى البذرة الأولى لفكرة «الطبيب الآلي النفسي»، تلك البذرة التي نمت في تربة الحرب والمعاناة، محاولةً أن تمنح الأمل حيث ندر الأمل. واليوم نخطو خطوة أعمق داخل قلب المشروع، حيث يتحوّل السؤال إلى آلية، والفكرة إلى منهج: كيف يمكن لنظام حاسوبي، وُلد في بيئة سودانية قاسية، أن يُشخِّص الاضطرابات النفسية؟ وهل يمكن الوثوق في تشخيصه كما نثق في الطبيب البشري؟
حين بدأتُ العمل على المشروع، لم أكن أبحث عن برنامجٍ جامد، بل عن كيانٍ رقمي يملك حسًّا معرفيًّا وإنسانيًّا. ولذلك حدّدتُ ثلاثة محاور أساسية: الهدف، والقاعدة المعرفية، ومنهجية التطوير
كيف يعمل الطبيب الآلي النفسي؟
وُلدت فكرة الطبيب الآلي النفسي في زمن لم يكن الأمل فيه سلعة متاحة؛ كنت أرى الناس من حولي يرزحون تحت ضغوط الحرب والفقد، فخطرت لي فكرة غريبة في بساطتها: هل يمكن للآلة أن تُصغي؟
ومن هنا بدأت الرحلة.. من حيرة السؤال إلى تصميم نظام ذكي يستطيع فهم الإنسان وتشخيص اضطراباته النفسية، بل ومساندته في طريق العلاج.
من فكرة إلى منهج علمي
حين بدأتُ العمل على المشروع، لم أكن أبحث عن برنامج جامد، بل عن كيان رقمي يملك حسًّا معرفيًّا وإنسانيًّا. قمت بتحديد ثلاثة محاور أساسية للعمل:
- الهدف: ابتكار نظام ذكي يقدّم تشخيصًا مبدئيًا للحالات النفسية الأكثر شيوعًا، يكون سهل الاستخدام ومتاحًا للجميع، دون الحاجة إلى خلفية طبية.
- القاعدة المعرفية: اعتمدتُ على مصادر علم النفس الإكلينيكي لصياغة قاعدة معرفية تغطي 39 اضطرابًا نفسيًّا، حُوّلت إلى لغة منطقية داخل بيئة Prolog، بحيث يتمكن النظام من التفكير بطريقة تشبه طريقة الطبيب البشري.
- منهجية التطوير: اعتمدتُ مزيجًا من المنهج التحليلي والمنطقي، إلى جانب تجارب ميدانية، ومقارنة نتائج النظام بتشخيصات أطباء نفسيين، لضمان الموثوقية والدقة.
تبدأ آلية التشخيص بأسئلة قصيرة حول المزاج، والنوم، والشهية، والقلق، والعادات اليومية. وبعد جمع الإجابات، يقوم النظام بتحليلها وفق قواعد منطقية
اختبارات وتحولات
لم يولد النظام مكتملًا، بل مر بمراحل اختبار متعددة:
- اختبار اللغة: للتأكد من أن المستخدم العادي يفهم الأسئلة بسهولة.
- اختبار الأداء: عبر محاكاة أعراض واقعية لقياس منطق التشخيص.
- اختبار المقارنة: بمراجعة نتائج النظام مع مختصين لتقليل هامش الخطأ.
وكانت النتيجة مشجعة؛ إذ أظهر النظام قدرة على تقديم تشخيص مبدئي دقيق في معظم الحالات، ما جعله خطوة حقيقية نحو الذكاء النفسي الاصطناعي.
كيف يفكّر الطبيب الآلي؟
تبدأ آلية التشخيص بأسئلة قصيرة حول المزاج، والنوم، والشهية، والقلق، والعادات اليومية. وبعد جمع الإجابات، يقوم النظام بتحليلها وفق قواعد منطقية. وإذا تشابهت الأعراض بين حالتين، يطرح أسئلة إضافية للفصل بينهما، ثم يعرض النتيجة بلغة ودودة تُشعر المستخدم بالاحتواء لا بالحكم.
في مجتمع لا تزال الوصمة النفسية فيه ثقيلة، جعلتُ السرية محورًا أساسيًّا؛ فالنظام لا يطلب بيانات شخصية، ويتيح للمستخدم التعبير بحرية تامة. وبهذا المعنى، يمثّل مساحة آمنة للحوار مع الذات، بعيدًا عن الخوف أو الإحراج
لوحة الاضطرابات النفسية المغطّاة
يغطي النظام نطاقًا واسعًا من الاضطرابات، منها:
- اضطرابات المزاج: الاكتئاب، ثنائي القطب، عسر المزاج.
- اضطرابات القلق: القلق العام، الهلع، الرهاب الاجتماعي.
- الاضطرابات الذهانية: الفصام، الاضطراب الوهمي.
- اضطرابات النوم والأكل: إضافةً إلى اضطرابات الطفولة والشخصية والإدمان.
إنه أشبه بمكتبة استشارية تفاعلية، تختصر سنوات من المعرفة النفسية داخل شاشة واحدة.
الأمان النفسي والسرية
في مجتمع لا تزال الوصمة النفسية فيه ثقيلة، جعلتُ السرية محورًا أساسيًّا؛ فالنظام لا يطلب بيانات شخصية، ويتيح للمستخدم التعبير بحرية تامة. وبهذا المعنى، يمثّل مساحة آمنة للحوار مع الذات، بعيدًا عن الخوف أو الإحراج.
إن بناء نظام كهذا في بلد أنهكته الحرب ليس إنجازًا تقنيًا فحسب
ما بعد التشخيص
لم يكن هدفي أن يتوقف النظام عند التشخيص فقط، بل أن يمتد ليقدّم برنامجًا للعلاج السلوكي المعرفي (CBT)؛ فالمعرفة لا تكتمل إلا بالفعل. وهنا يتحوّل النظام إلى دليل عملي يساعد المستخدم على مواجهة أفكاره وسلوكياته، خطوة بخطوة، نحو التعافي.
الطبيب الآلي النفسي ليس بديلًا عن الطبيب البشري، بل صديقًا رقميًا يحاول ترميم الهوّة بين الإنسان وألمه. وإن بناء نظام كهذا في بلد أنهكته الحرب ليس إنجازًا تقنيًا فحسب، بل صرخة أمل تقول: حتى في الرماد، يمكن أن تنبت المعرفة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة