- التعليم الجامعي بين فكي سوق العمل وثورة الحصول على المعلومة!
تاريخيا يعد التعليم الجامعي في الغرب، والتوسع فيه لاحقا خلال الخمسين سنة الأخيرة، أحد النجاحات المتميزة، خاصة في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية. وبلا شك انعكس ذلك على سمعة الجامعات في هذين البلدين، اللذين يضمان مجموعة ليست فقط من أعرق الجامعات في العالم، بل أميزها وأكفأها أكاديميا.
أدت التوسعات في هذا المجال عبر الحقب الزمنية إلى تحوله من رفاهية لا يتمتع بها سوى 5٪ من الشباب في سن التحصيل الجامعي، إلى حركة مجتمعية شاملة تظلل اليوم نحو 50٪ من هذه الفئة.
بيد أن كثيرين يثيرون شكوكا بين الحين والآخر حول جودة وضرورة بعض الكورسات المقدمة من بعض الجامعات. كما أن هناك مؤشرات عديدة تبدو وكأنها وقود سلبي يعمق هذا القلق.
وتتمثل هذه المؤشرات في نسبة الطلاب الذين لا يكملون الدراسة، والدرجات العلمية المضخمة، والإحباط في سوق العمل، بالإضافة إلى الأعداد المتزايدة من الطلاب الذين انتهى بهم الأمر بأثقال مالية لا طاقة لهم ولا لذويهم على الإيفاء بها. وتمثل هذه أمثلة مقلقة لمآلات بعض المواد المقدمة من بعض الجامعات.
عمق من هذا الشعور أيضا تقييم مهارات الأجيال في جيوب جغرافية عديدة في الغرب. فقد أثبتت هذه التقييمات تفوق الآباء في مهاراتهم اللغوية والحسابية على أبنائهم، وهو مسار معاكس للتطور الطبيعي للتعليم. وليس ذلك فحسب، بل إن نصف وظائف اليوم كانت تؤدى في السابق بواسطة خريجين غير جامعيين. كما أنه ليس خافيا أن الدرجات العلمية اليوم ليست بالضرورة البوابة الوحيدة لعالم الوظيفة والتوظيف.
يطرح كل ذلك تساؤلات حول مدى التسليم بأن الدراسة الجامعية تطور طبيعي توجبه متطلبات الحياة في عصرنا الحالي بوجه عام، ومتطلبات الوظيفة بوجه خاص. أم إنها تمثل، بالنسبة لمجموعة مقدرة من الشباب، إضاعة للوقت ودرجة علمية عديمة القيمة ولا تجد الترحيب الكافي في سوق العمل؟
الزيادة في أعداد الخريجين في العقود الأخيرة قابلها، في مجالات كثيرة، تضاؤل في فرص كسبهم. وبالتالي أصبح التعليم الجامعي يشكل عبئا متزايدا على دافعي الضرائب
الجامعة وحركة المجتمع
لا شك أن الجامعة مؤسسة ضرورية للمجتمع، وهي بمثابة الركن الرئيس الذي تتشكل فيه حياة الطلاب وتجربتهم بصورة إيجابية. وعبر الحقب الزمنية مثلت الجامعات قمة النظم التعليمية التي لعبت أدوارا مفصلية في هندسة المجتمعات، ولا تزال ترفد المجتمع بأفضل مكوناته.
لكن هناك شواهد كثيرة اليوم تشير إلى أن الجامعات لم تعد المصدر الوحيد لهذه الهندسة، وأن مساهمة خريجي الجامعات في الحياة العامة بدأت في التراجع. فعلى السطح قد تبدو الصورة زاهية كما كانت، حيث يتخرج الطلاب بدرجات عالية.
غير أن فئات كثيرة من الخريجين لا تجد دعما كافيا للالتحاق بسوق العمل. وكثير ممن يكتب لهم النجاح ينتهي بهم الأمر بأداء وظائف كان يؤديها في السابق، وبكفاءة أعلى، من لم يحملوا شهادات جامعية على الإطلاق.
وبلا شك توجد جامعات تمثل نماذج ناجحة في استشعار متطلبات سوق العمل، وتقديم الدعم الكافي قبل وبعد التخرج، بما يضمن تدفق الخريجين إلى ذلك السوق بصورة تجمع بين السلاسة والديمومة.
ثمة جانب آخر يمس المجتمع بصورة مباشرة، وهو تكلفة بعض الدرجات العلمية ومدى ضرورتها للمجتمع مقارنة بنتاج وأثر خريجيها. فعالم اليوم، سواء بالنسبة للأفراد أو الحكومات، ليس بحقل غير محدود الموارد.
في كثير من البلدان تقوم مؤسسات حكومية أو شبه حكومية أو خيرية بدعم تكاليف التعليم الجامعي للطلاب. وفي العادة لا يبدأ الطلاب في دفع هذه الديون إلا بعد أن تتخطى دخولهم أرقاما معينة عقب التخرج. وبالطبع تمول الحكومة هذه النفقات من أموال دافعي الضرائب.
غير أن الزيادة في أعداد الخريجين في العقود الأخيرة قابلها، في مجالات كثيرة، تضاؤل في فرص كسبهم. وبالتالي أصبح التعليم الجامعي يشكل عبئا متزايدا على دافعي الضرائب.
أي نظام تعليمي محكم لا يؤتي تمام أكله إلا إذا اتسم بالمرونة والتنوع اللازمين لاستيعاب طيف واسع من اهتمامات الطلاب وتطلعاتهم. وليس خافيا أن نسبة مقدرة من الطلاب تسعى لاكتساب المهارات والمعارف اللازمة للاستمرار في المسار الجامعي بخطى واثقة
الجامعات.. مؤسسات على الكرسي الساخن!
الجامعات هي مكان لتعلم وتحفيز التفكير النقدي الحر، إلا أن عددا مقدرا من الأكاديميين صارت لهم وقفة عند هذا المبدأ ومدى تمثيله للواقع اليوم، وقدرته على الصمود أمام الاختبار.
يشرح دينيز هيز، وهو أكاديمي بريطاني متخصص في نظم التعليم العالي، في كتابه الذي يمكن ترجمته بعنوان “مكدونالدنة التعليم العالي” (McDonaldization of Higher Education)، اتجاه بعض الجامعات، ربما دون وعي، إلى تقسيم المعرفة وتجزئتها وتقديمها على هيئة “وجبات” سريعة صغيرة وبسيطة وسهلة الهضم، بدلا من الالتزام برسالة التعليم الجيد الذي يعلي من قيم الجهد والمثابرة.
تحتوي تلك الوجبات على الغلاف الخارجي المطلوب، مثل الأهداف التعليمية والنتائج المرجوة. وقد سهل ذلك المهمة على الأساتذة والطلاب على حد سواء، حيث صار الهدف هو التبسيط إلى أقصى حد.
وهو ما يفسر الدرجات العالية غير المسبوقة، التي تخدم في الوقت نفسه غرض إرضاء الجميع، بما في ذلك نشرات وقوائم ترتيب الجامعات. ولعل عدم اكتراث بعض هذه القوائم بمقدار الجهد المبذول من الطلاب للحصول على الدرجة العلمية لا يعد عاملا مساعدا.
يعكس هذا الرأي قلق المهتمين بالتعليم من النسبة المرتفعة للطلاب الذين يتحصلون على درجات عالية جدا. كما يعكس الخشية من تحول ذلك إلى ظاهرة تثير تساؤلات حول مدى إمكانية اعتبار هذه الدرجات انعكاسا حقيقيا وجادا لقيم المثابرة والجهد لدى الطلاب، وكذلك للاهتمام والمتابعة والجهد الذي يبذله الأساتذة والقائمون على العملية التعليمية.
يرى البعض أن هذه الهندسة المجتمعية والإعداد الفكري ربما إضاعة لوقت ثمين بالنسبة لبعض الشباب الذين لم تكن الدراسة الجامعية الخيار الأمثل لهم، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تطلعاتهم وشغفهم واستعدادهم النفسي
التعليم الجامعي لمن؟
لا شك أن أي نظام تعليمي محكم لا يؤتي تمام أكله إلا إذا اتسم بالمرونة والتنوع اللازمين لاستيعاب طيف واسع من اهتمامات الطلاب وتطلعاتهم. وليس خافيا أن نسبة مقدرة من الطلاب تسعى لاكتساب المهارات والمعارف اللازمة للاستمرار في المسار الجامعي بخطى واثقة.
لكن يبقى السؤال حول مدى تمتع الغالبية بصفات مثل الدقة والمثابرة والاستعداد لعبور التقييمات الحازمة والصارمة التي تمثل ركنا أصيلا من أركان الدراسة الجامعية.
ومن هنا يعود السؤال القديم المتجدد: إلى أي ناحية تميل الأفضلية عند الحديث عن ثلاث إلى خمس سنوات تقضيها شريحة عمرية من الشباب بعد سنوات المدرسة؟ الجامعة أم التدريب في العلوم التطبيقية؟
الإجابة تعتمد في الحقيقة على عوامل كثيرة، منها استعداد الطلاب أنفسهم، وجودة الكورسات المقدمة. ومن المجدي عدم النظر إلى التعليم الجامعي بوصفه مرحلة إعداد لسوق العمل فحسب، بل كمرحلة منتوجها المرتجى شباب يتمتعون بالشغف والتمدن والعقل النقدي.
يرى البعض أن هذه الهندسة المجتمعية والإعداد الفكري ربما إضاعة لوقت ثمين بالنسبة لبعض الشباب الذين لم تكن الدراسة الجامعية الخيار الأمثل لهم، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تطلعاتهم وشغفهم واستعدادهم النفسي. إذ لا طائل قطعا من إنفاق الدول، ومن ورائها المجتمعات، على كورسات فقيرة المحتوى لا يجني المجتمع ثمارها، بينما يتمكن دارسوها من تحصيل المعرفة نفسها من أوعية معرفية أخرى أقل تكلفة من حيث الموارد والزمن.
هل نحن أمام ظاهرة ناتجة عن تطور تكنولوجيا الحصول على المعلومة وخلق أرضيات جديدة بصورة مطردة، أم أن جهدا مقدرا بذل في عمليتي التعليم والتقييم؟
ختاما لا شك أن الطلاب اليوم بحاجة إلى دعم أكبر. وتقع على عاتق المربين مسؤوليات جسيمة في توجيه الدارسين حول مدى مواءمة تقييمهم الأكاديمي والنفسي وطموحاتهم مع نوع الدراسة الجامعية المختارة.
يأتي كل ذلك في ظل ثورة تكنولوجية ومعلوماتية باتت في حد ذاتها مصدرا مستقلا للمعارف والعلوم.
وبصورة عامة يسود شعور بالقلق تجاه بعض المواد المقدمة، وجدارتها، والنتائج التي يتخرج بها الدارسون، والرسالة السلبية التي قد يلتقطها سوق العمل من ذلك.
هل نحن أمام ظاهرة ناتجة عن تطور تكنولوجيا الحصول على المعلومة وخلق أرضيات جديدة بصورة مطردة، أم أن جهدا مقدرا بذل في عمليتي التعليم والتقييم، أم أن هناك تبسيطا للمادة التعليمية له أسبابه التي يتفق ويختلف حولها؟
ربما تحمل الإجابة بعضا من هذا وذاك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة