إسرائيل أمام العدالة الدولية: معركة قضائية تكسر حصانة الإفلات من العقاب

 

وتكمن أهمية هذه الدعاوى -كما عُرض في برنامج “للقصة بقية”- في كونها تؤسس لمسار قانوني تراكمي يهدف إلى محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وصولا إلى الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

ولا تقتصر قيمة هذا المسار على البعد الرمزي، بل تتجلى أيضا في قدرته على دعم الحقوق الفلسطينية المشروعة، عبر تثبيت الاختصاص القضائي الدولي وكسر سياسة الإفلات من العقاب، رغم الضغوط السياسية المتصاعدة.

في هذا السياق، شكلت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية محطة مفصلية، بعد اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، في ظل تجاهلها أوامر المحكمة والتحركات الدولية المطالبة بوقف الانتهاكات والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية.

وتزامن ذلك مع صدور مذكرتي اعتقال عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ورفض المحكمة إلغاء المذكرتين رغم التهديدات الأميركية والإسرائيلية.

“قرار تاريخي”

وأكد عبد المجيد مراري عضو الفريق القانوني للدفاع عن فلسطين أمام الجنائية الدولية أن إسرائيل تعتبر المعركة القضائية “الأهم بعد معركة الأرض”، ولذلك سخّرت ترسانة من المحامين والموارد لإغراق المحكمة بالطعون، رغم علمها -بحسب قوله- بعدم قيمتها القانونية.

وأوضح مراري -للجزيرة- أن قرار الجنائية الدولية الأخير شكّل “قرارا تاريخيا”، في إشارة منه إلى رفض الغرفة التمهيدية إعادة فتح النقاش حول مسألة الإخطار والاختصاص.

وفي هذا الإطار، رفض قضاة الاستئناف في الجنائية الدولية بأغلبية الأصوات الاعتراض الإسرائيلي على أوامر الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ضمن مساعيها لوقف تحقيق المحكمة في طريقة إدارتها الحرب على القطاع.

وشدد مراري على أن “إسرائيل حاولت فرض نقاش لا يعني المحكمة، باعتبار أنها تقدمت بالطعن كدولة، في حين أن المحكمة الجنائية الدولية محكمة أفراد”، مما يعني أن الطعن يجب أن يقدمه المتهمان أنفسهما.

وخلص إلى أن مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت لا تزالان قائمتين ونهائيتين، وحائزتين لقوة الشيء المقضي به.

وأسفرت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عن استشهاد ما لا يقل عن 70 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وفق بيانات وزارة الصحة في غزة، والتي تعتبرها الأمم المتحدة موثوقة.

واقع قانوني جديد

ومن جهته، أوضح أستاذ القانون الدولي ويليام شاباس أن إسرائيل “تقاتل بكل الموارد المتوفرة” لتعطيل عمل محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، مشيرا إلى أن الهجمات ضد المحكمتين غير قانونية.

وفي السياق ذاته، أكد عبد المجيد مراري أن ما تعرضت له المدعية العامة السابقة للجنائية الدولية فاتو بنسودا ثم المدعي الحالي كريم خان، يندرج ضمن سياسة إسرائيلية ممنهجة لعرقلة العدالة الدولية، مشيرا إلى تهديدات وضغوط أميركية وبريطانية لم تمنع إصدار مذكرات الاعتقال.

واتفق شاباس مع هذا الطرح، مؤكدا أن الضغوط لا تأتي من إسرائيل فقط، بل من الولايات المتحدة أيضا، التي فرضت “عقوبات مروعة على قضاة وموظفين في المحكمة”.

وأشار إلى أن قرار المحكمة بعدم الإعلان مستقبلا عن مذكرات الاعتقال يعني احتمال صدور مذكرات أخرى بحق قادة إسرائيليين، مع تقييد حركتهم خارجيا، مؤكدا أن هذه التطورات تفرض واقعا قانونيا جديدا، حتى في ظل الغطاء السياسي الغربي لإسرائيل.

وحول البعد الأوسع للمساءلة، قال شاباس إن قضية جنوب أفريقيا أمام العدل الدولية قد تفتح الباب أمام بحث مسؤوليات أطراف أخرى، لافتا إلى وجود قلق داخل حكومات غربية من احتمال المثول أمام المحكمة ذاتها.

وذكّر بآراء استشارية صدرت في يوليو/تموز 2024 خلصت إلى أن الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين يتعارض مع القانون الدولي وتطرقت إلى الفصل العنصري، مؤكدا أن القضاة أنفسهم سينظرون في القضية الحالية.

بدوره، أكد مراري أن الزخم الدولي المتزايد من دول أوروبية وغيرها أحالت ملفات مباشرة إلى الجنائية الدولية يعزز المسار القضائي، مشيرا إلى فتح تحقيقات وطنية، إضافة إلى التقدم في ملفات الأسرى الفلسطينيين والانتهاكات واستهداف الصحفيين.

وختم بالتأكيد أن هذه معركة قضائية طويلة ومعقدة، لكنها مستمرة، وأن العدالة الدولية باتت مسارا قائما لدعم حقوق الفلسطينيين، حتى وإن تطلب ذلك وقتا، مؤكدا أن “هذا الحق لن يضيع ما دام وراءه مطالب”.

 

المصدر: الجزيرة