(1)
يقول إبراهيم الحساوي لصحيفة عكاظ، في آخر لقاء صحافي له: «أعالج المسافة بالمحبة والحياة والمرونة»، وهو هنا اقتبس أحد عناوين قاسم حداد، ليردم المسافة بين قريته الحليلة (الأحساء) والدمام، في ردِّه على سؤال انتقاله وإقامته في أوسع مدن الشرقية وأكثرها حركة.
فهل عالج إبراهيم الحنين؟!
أعتقد لا، ومَنْ يعرفه عن قُرب، يقول لا، هو حاوَل العلاج، لكنه لم يتمّه، فإبراهيم كائن منقوع بالحنين، كل ما خلَّفه وراءه في الحليلة والأحساء من ذكريات وبدايات وخطوات ومنابت خضراء وأسوار مدارس وأسواق شعبية، وما تركه من أزمان مرَّت كشرائط سينمائية بعثرات العشق والفقد والألم والصداقات والخسارات الصغيرة، والأعياد والأفراح، والحرائق المشتعلة بـ «كاسيتات» الأغاني والدفاتر الصفراء وقصاصات الأوراق والصحف القديمة، كلها هرَّبها خفيةً معه (في داخله) إلى الدمام وإلى إقامته الجديدة.
الحساوي يملك حساسية عالية في إعطاء الدور حقه من التلبُّس والانفعال والبرود والمبالغة
فهل باستطاعة إنسان حقيقي مجبول على الفطرة والصدق والوفاء أن يتخلَّص من الحنين؟!
سيحتاج إلى وقت أطول، وبناء ذاكرة جديدة، ونسيان كثيف، علَّه يعالج نصف المسافة!
ومن باب الحنين: يدخل إلى سمعي في ذلك المساء، صوت إبراهيم، في مكالمة هاتفية رائقة، لا أنساها، استغربت فيها صوته وحماسه وفرحته الطفولية وهو يحدثني عن الانتهاء من مسلسل «خيوط المعازيب». إحساسه كان غامراً بتحقيق حلمه، وتوقعاته كانت واثقة من نجاح العمل وتميزه (وهذا ما حدث فعلاً) بعد عرضه على الشاشات، فهمت أن سر سعادة إبراهيم الطافحة هو أنه أخيراً مثَّل نفسه، أو كان «يلعب» في ملعبه، في الديكورات الضخمة التي شيّدت لتمثيل الأحساء وشوارعها وأسواقها وناسها ومِهَنهم بحرفية عالية.
إذاً، هذا هو الحنين البعيد الذي يسكن إبراهيم، ولن يزول.
أذكر أن زارنا إبراهيم بعد فترة في الكويت، وخلال جولة لنا بسوق المباركية الشعبي، كان يتوقف أمام محلّات بيع «البشوت» ويقول مازحاً بابتسامته المميزة: هذي «بشوتنا» الحساوية يا صديقي.
الابتسامة المشعة والمميزة التي صارت تحمل اسمه وراءها عُمق العارف وطيبة القروي الواثق
(2)
سِمَتان في ملامح إبراهيم، متلازمتان، تكشفان أصل الجوهر، هما: ابتسامته، ولمعة عينيه.
الابتسامة المشعَّة والمميزة التي صارت تحمل اسمه، وراءها عُمق العارف، وطيبة القروي الواثق، ليست أداءَ دورٍ تمثيلي، ولا حيلة لتصنُّع الجاذبية، ابتسامته تلك لا تناقِض جديته ولا ثبات مواقفه، تأتي الابتسامة مشرقة جاذبة «مهلّيةً» بالآخر، تأتي كقلب، كاحتضانة، لكنها لا تمحو الجدية، ولا تضعف موقف صاحبها.
هي حقيقية جداً، نابعة من القلب، خبرناها في أكثر من موقف وحالة وزمن، أقول بكل ثقة إنها الينابيع الخفية التي تفور بين أضلاعه، وتظهر في المرايا من حوله، أعني: عيون الناس.
أما سمة العينين، ففيهما القرى البعيدة، وبساتين هناك تعاند اليباس، وأيام أكثر من سنوات العُمر، شمسان عموديتان، تتعامدان على جذع النخلة، ليحفرا لُبَّها (جذْبها)، العينان شاشة صادقة لتجارب الحياة، وكاميرات دقيقة في «اللوكيشن»، تلوب وتدور في الموقع لتلتقط ما قد يقع من حواف حياتنا.
وعلى الأرجح أن العينين – أيضاً- كاميرا تُدار عدستها إلى الداخل وإلى ما خفي في البئر.
(3)
يُقال على سبيل التشبيه، إن المبدع بفن الشعر «عليه ألا يُظهر أثَر الإبرة»، أي ألا يكشف سر الصنعة، وهذا ما أراه في «وجوه» إبراهيم الحساوي على «الشاشات»، يملك حساسية عالية في إعطاء الدور حقّه، من التلبُّس والانفعال والبرود والمبالغة والهدوء والتوتير والحركة والركود، الحيوية في تعابير الوجه أو «تمويته» والإشارة والصمت ولغة الجسد أو تبريد الموقف. مسألة مركَّبة معقدة، لكن إبراهيم يتقنها في كل مرَّة، كمن يزن كل تلك الحالات بـ «ميزان الذهب» الدقيق.
وكلاهما ذهب، غالٍ وعالي القيمة والمكانة، إبراهيم بشخصه الحقيقي، وإبراهيم بأدواره ومراياه.
* مشاركة ضمن كتاب الشخصية المكرَّمة صدر قبل أيام في مهرجان الأفلام السعودية بعنوان «إبراهيم الحساوي… من مسرح القرية إلى شاشة العالم».