يُعتقد أن العوامل الوراثية تلعب دوراً رئيسياً في الإصابة بالتوحد، لكن كان من الصعب طوال عقود تحديد هذه العوامل. والآن، بدأ العلماء في الكشف عن بعض الأدلة.
حتى سبعينيات القرن الماضي، كان الاعتقاد السائد في أوساط الطب النفسي أن التوحد هو نتيجة التربية السيئة.
وفي الأربعينيات، صاغ الطبيب النفسي النمساوي ليو كانر نظرية مثيرة للجدل تُسمى “الأم الثلاجة”، التي اقترحت أن التوحد ينشأ بسبب صدمة تحدث خلال الطفولة المبكرة، سببها الأمهات “الباردات” غير المباليات اللواتي يرفضن أطفالهن.
ويقول دانيال جيشويند، أستاذ علم الأعصاب والوراثة في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس، إن هذا الاعتقاد يُصنف الآن، وبصورة محقّة، على أنه مضر وخاطئ للغاية، لكن الأمر استغرق ما يقرب من ثلاثة عقود لدحض نظرية كانر.
فروق صغيرة
وسبق وأن تم تحديد اختلافات “فائقة القوة” فيما يصل إلى 20 في المئة من جميع حالات التوحد، حيث تُعد طفرة واحدة في جين واحد مسؤولة بشكل كبير عن إحداث اختلافات حرجة في النمو العصبي.
ودور هذه الطفرات الجينية المنفردة وكيفية نشوئها يُعد من أكثر المجالات التي خضعت للدراسة المكثفة في أبحاث التوحد، لأنها، كما يوضح بورجيرون، غالباً ما تؤدي إلى إعاقات شديدة ومحدِّدة لنمط الحياة.
يقول بورجيرون: “هذا ليس كالتوحد الذي تراه في الأفلام. فإذا وُلدتَ بإحدى هذه الطفرات الرئيسية، فمن المرجح أن تُصاب بإعاقة ذهنية أو تأخر حركي – أي القدرة على تنسيق مجموعات العضلات – أو اعتلال دماغي صرعي. ويؤثر ذلك بشكل كبير على طبيعة حياة المصابين وعائلاتهم في معظم الحالات”.
وحدد العلماء، حتى الآن، ما لا يقل عن 100 جين يمكن أن تحدث فيها هذه الطفرات. وكان بورجيرون نفسه من أوائل من توصلوا إلى إحدى هذه الاكتشافات في مارس/آذار 2003، حين حدد طفرتين جينيتين على صلة بالتوحد.
وتؤثر كلا الطفرتين على البروتينات المشاركة في تكوين المشابك العصبية، وهي عملية تشكيل الروابط بين الخلايا العصبية في الدماغ.
لكن المزيد من الاكتشافات أتت تباعاً، كالطفرات في جين (Shank3)، التي يُقدر حدوثها لأقل من 1 في المئة من المصابين بالتوحد.
ومن المعروف الآن أن بعض هذه الطفرات تُسمى بـ “المتغيرات الجديدة”، أي إنها تحدث بالصدفة خلال نمو الجنين، وليست موجودة في الحمض النووي لدم الأم أو الأب. ويصف جيشويند المتغيرات الجديدة بأنها أشبه بـ “صاعقة”، إذ إنها نادرة وغير متوقعة.
وفي حالات أخرى، قد تنتقل هذه الطفرات من أحد الوالدين، حتى لو بدا كلاهما سليمين عصبياً، وهي ظاهرة أشد تعقيداً، ولم يبدأ الباحثون في فهمها إلا في العقد الماضي.
يقول جيشويند: “قد تتساءل، إذا ورث طفل مصاب بالتوحد طفرة جينية نادرة من أحد والديه، فلماذا لا يُكون هذا الوالد أيضاً مصاباً بالتوحد؟”
ويضيف: “يبدو أن ما يحدث لدى الوالد هو أن الطفرة الجينية الرئيسية لديه لا تكفي لأن تكون مسبباً للإصابة، لكن لدى الطفل، تتحد هذه الطفرة الجينية الرئيسية بشكل تراكمي مع متغيرات جينية أخرى أقل تأثيراً بحد ذاتها، ما يُسبب حدوث اختلافات في النمو العصبي”.
وبطبيعة الحال، هناك أيضاً اعتقاد بأن عوامل بيئية تلعب دوراً في تطور التوحد، فحتى في حالة التوائم المتطابقة، حين يُجرى تشخيص إصابة أحدهما، فلن يُشخَّص الآخر بالإصابة بها في 10 في المئة من الحالات.
تاريخياً، أدت محاولة تحديد العوامل البيئية المسببة للتوحد إلى ظهور معتقدات علمية زائفة، مثل الفكرة – المرفوضة حالياً بشكل كبير – التي تُفيد باحتمال تورط بعض اللقاحات في ذلك.
وقد تعهد وزير الصحة الأمريكي، روبرت كينيدي جونيور، ببذل جهود بحثية ضخمة لتحديد أسباب التوحد قبل سبتمبر/أيلول 2025. وتشمل تلك الجهود توظيف ديفيد جير، المشكك في اللقاحات، كمحلل بيانات في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية.
ووفقاً لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، فإن الأسباب غير الوراثية المحتملة للتوحد تشمل تعرض الأم قبل الولادة لتلوث الهواء وبعض المبيدات الحشرية، والولادة المبكرة جداً، والولادة المتعسرة التي تؤدي إلى نقص الأكسجين في دماغ الطفل، إلى جانب عوامل أخرى.
التطور المبكر
تتجه الأبحاث الجينية اليوم نحو التقدم في فهم كيفية تأثير النمو العصبي على التوحد. ويبدو أن العديد من هذه الجينات تصبح فعالة أثناء تكوين القشرة المخية، وهي الطبقة الخارجية المتجعدة من الدماغ، المسؤولة عن العديد من الوظائف العليا، كالذاكرة وحل المشكلات والتفكير.
ويقول جيشويند: “يمكن اعتبار هذه الطفرات بمثابة خلل في أنماط النمو الطبيعية، ما يُخرج النمو عن مساره الطبيعي، وربما ينتقل إلى مسار آخر، بدلاً من نمط النمو الطبيعي العصبي”.
ولأن هذه الطفرات الجينية تُسبب إعاقات شديدة، فقد تمكن الأهالي من تشكيل مجموعات دعم بفضل المعلومات المتعلقة بهذه الطفرات، مثل مؤسسة (FamilieSCN2A) التي تُعنى بعائلات الأطفال المصابين بالتوحد الذين رُبط تشخيصهم بتغير وراثي في جين (SCN2A). كما دارت نقاشات حول فكرة استخدام هذه المعلومات الجينية للتأثير على قرارات الإنجاب المستقبلية.
ويوضح جيشويد: “إذا كان الأمر متعلقاً بمتغير وراثي جديد، فيمكن إخبار الوالدين عندئذ بأن خطر إنجاب طفل آخر يعاني من التحديات النمائية العصبية ذاتها سيكون منخفضاً، نظراً لأن تأثير العوامل الوراثية سيكون محدوداً في حال قرروا إنجاب أطفال آخرين”.
ويتابع قائلاً: “يمكننا أيضاً أن نمنح العائلة فكرة عن مدى تطور طفلهم مع مرور الوقت، وبالنسبة لوالدَيْ طفل يبلغ من العمر عامين،غير قادر على الكلام ويعاني من بعض التأخر في المشي، فسيرغبان في معرفة ما يمكن توقعه لاحقاً”.
وعلى الرغم من أن ذلك من شأنه أن يعود بفوائد جمّة على هذه العائلات، إلا أن مفهوم البحث الجيني لا يُنظر إليه بإيجابية شاملة في مجتمع التوحد. فالتوحد طيف واسع، يتراوح بين أولئك الذين يعانون من إعاقات شديدة في النمو البدني والعقلي تمنعهم من العيش باستقلالية، وبين آخرين يحتاجون دعماً بدرجة أقل بكثير، ويعدون التوحد هويةً لهم وميزةً، ويعارضون وصفه بأنه اضطراب.
ونتيجة لذلك، فإن تجميع البيانات الجينية أثار مخاوف مستمرة لدى بعض المصابين بالتوحد وأسرهم وعدد من الباحثين الأكاديميين بشأن كيفية استخدامها.
صورة معقدة
خلال نصف القرن الماضي، أظهرت الدراسات الجينية أن التنوع العصبي لدى غالبية المصابين بالتوحد، ينشأ من خلال التأثيرات التراكمية لمئات أو حتى آلاف المتغيرات الجينية الشائعة نسبياً التي ورثوها عن كلا الوالدين.
هذه المتغيرات الجينية موجودة لدى جميع الأفراد السليمين والمتباينين عصبياً، وتكون المساهمة الفردية لأيٍّ من هذه الجينات في النمو العصبي ضئيلة. ولكن حين تجتمع مع بعضها، يكون لها تأثير كبير على بنية الدماغ.
ويقول بورجيرون إن من المألوف أن يُظهر أحد الوالدين أو كلاهما، ممن يحملون بعض هذه المتغيرات الجينية، سماتٍ توحدية، كتفضيل النظام، والصعوبة في تمييز المشاعر، والوعي المفرط بالأنماط؛ لكنهما على عكس طفلهما، حيث لا تتجلى هذه السمات بشكل كبير لدرجة يمكن عندها تشخيصهما بالتوحد.
في بداية القرن الحالي، ابتكر سيمون بارون كوهين، أستاذ علم النفس والطب النفسي بجامعة كامبريدج، بمشاركة زملائه، اختباراً يُسمى “قراءة العقل عبر العيون”.
ويهدف هذا الاختبار إلى تقييم قدرة المرء على اكتشاف مشاعر كالشعور بالمرح، أو الراحة، أو الانزعاج، أو الملل، وذلك بالاعتماد على صورة لاتُظهر سوى العينين.
وتكمن الفكرة في أن ضعف الأداء في الاختبار يشير إلى ارتفاع احتمال إصابة المرء بالتوحد.
يقول بورجيرون: “يختلف المصابون بالتوحد في طريقة نظرهم إلى الوجوه، ويبدو أنهم يحصلون على معلومات أكثر عن طريق النظر إلى الفم. أما الإنسان الطبيعي فيحصل على معلومات أكثر عن طريق النظر إلى العينين”.
في الآونة الأخيرة، وبالتعاون مع موقع (23andMe) لفحص الحمض النووي، الذي وافق على استضافة اختبار قراءة الأفكار من خلال العيون على موقعه الإلكتروني، تمكن بورجيرون وبارون كوهين من جمع بيانات حول قدرات أكثر من 88 ألف إنسان على قراءة الأفكار والمشاعر من خلال العيون، ومقارنة أدائهم بمعلوماتهم الجينية.