مع ازدياد الخطاب النسوي على مستوى العالم والتهديد الذي طال مفاهيم الذكورة التقليدية، شهدت السنوات الأخيرة صعود ما أصبح يعرف بـ”المانوسفير” (الفضاء الذكوري الإلكتروني) ووصوله إلى شرائح واسعة من الرجال حول العالم.
ويشير مصطلح المانوسفير إلى تنامي مجموعة غير منظّمة من المجتمعات الإلكترونية، والمدونات، والمنتديات، والمؤثرين الذين يركّزون على قضايا الرجال، وغالباً ما يروّجون لوجهات نظر مناهضة للنسوية، أو ذكورية متحيّزة ضد النساء، أو رجعية بشأن الجندر والمجتمع.
وأصبح هذا الفضاء الافتراضي نقطة التقاءٍ لمجموعةٍ واسعة من الخطابات التي تتراوح بين الدعوة إلى “استعادة الرجولة الحقيقية” ونقد ما يصفه أعضاؤه بـ”هيمنة النسوية” على الخطاب العام، وصولاً إلى تبنيّ نظريات أكثر تطرفاً ترى في العلاقات الجندرية صراعاً صفري النتائج بين الرجال والنساء.
وقد أدّت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في انتشار أفكار المانوسفير، حيث ساهمت المنصات الرقمية مثل يوتيوب، وتيك توك، وريديت في تعزيز انتشار محتواه، مما سمح لهذه الأفكار بالتغلغل في التيار العام واستقطاب فئات عمرية مختلفة، لا سيما المراهقين والشباب الذين يبحثون عن إجاباتٍ حول هويّاتهم في عالمٍ متغير.
تركز هذه المجموعة على تعليم الرجال استراتيجيات التلاعب النفسي والعاطفي في العلاقات العاطفية، بهدف تحسين فرصهم في جذب النساء. وتعزز فكرة أن الرجال يجب أن يكونوا “ذكوراً ألفا” مهيمنين في علاقاتهم، أي الرجال الذين يُنظر إليهم على أنهم الأقوى والأكثر سيطرة وجاذبية وفقاً لمنطق الهيمنة الاجتماعية والتفوق الذكوري.
هي مجموعة تعبّر عن استيائها من النساء والمجتمع بسبب فشل الرجال المنضوين فيها في تحقيق نجاح عاطفي أو جنسي، وقد تبنّت في السنوات الماضية هجمات عنيفة استهدفت النساء و”الرجال الناجحين جنسياً”، منها في كاليفورنيا عام 2014 راح ضحيتها 14 شخصاً وفي تورنتو عام 2018 و2020 وراح ضحيتها 11 شخصاً، بالإضافة إلى هجوم في المملكة المتحدة عام 2021 أودى بحياة 5 أشخاص.
وتتكوّن هذه المجموعة من رجال يشعرون بالحرمان العاطفي والجنسي، ويلقون اللوم على النساء والمجتمع في ذلك. وتحمل أفكارهم توجهات كراهية متطرفة، وتحريضاً على العنف ضد النساء. كما حُظر العديد من منصاتهم على الإنترنت بسبب خطاب الكراهية والتطرف.
ما هي أسباب نمو المانوسفير؟
يحاجج البعض بأن صعود المانوسفير جاء مدفوعاً بعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية عدة.
فمن جهة، أدى عدم الاستقرار الاقتصادي وتراجع فرص العمل إلى إضعاف الأدوار الذكورية التقليدية، مما زاد من شعور بعض الرجال بالإحباط والقلق تجاه مستقبلهم المهني والاجتماعي.
هذا الشعور بالتهميش الاقتصادي عزز حالة الاستياء تجاه النسوية والتغييرات الحديثة في الديناميكيات الجندرية.
من جهة أخرى، لعبت المنصات الرقمية دوراً محورياً في تضخيم محتوى المانوسفير، حيث تدفع خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي نحو التفاعل مع هذا النوع من المحتوى، مما يزيد من انتشاره.
منصات مثل “ريديت” في مجتمعات مثل r/TheRedPill، ويوتيوب، و”تيك توك” أصبحت بمثابة بيئات استقطاب تروج لأفكار هذا التيار، ما سمح له بالوصول إلى شرائح أوسع من الشباب.
كما أن رد الفعل على حركة “أنا أيضاً” (مي تو) المناهضة للتحرّش كان عاملاً أساسياً في انتشار المانوسفير، حيث يرى بعض الرجال أن هذه الحملة لم تكن مجرد دعوة للمحاسبة، بل هجوماً على الذكورة بحد ذاتها.
هذا الشعور بالمظلومية دفع العديد منهم إلى تبني خطاب مناهض للنسوية، مدفوعاً برغبة في مقاومة ما يصفونه بـ”الأفكار التقدمية” أو “اليقظة” حول المساواة بين الجنسين.
ويُستخدم مصطلح ثقافة “اليقظة” (Wokism) التي نشأت في الولايات المتحدة وتنامى الحديث عنها في السنوات القليلة الماضية عادةً، لوصف الأفراد والمجموعات المؤيدين للعدالة الاجتماعية.
من هم “مفكرّو” المانوسفير؟ وما هي أفكارهم؟
بالرغم من أن “المانوسفير” ليس حركة موحدة، إلا أنه يتشكل من مزيج من المؤثرين الرقميين، والمفكرين المزعومين، وأصحاب التوجهات الرجعية. ورغم اختلاف التيارات داخله، إلا أن هناك شخصيات رئيسية وجذوراً أيديولوجية بارزة تساهم في تشكيل خطاباته الأساسية:
أفكار فلسفية غير مباشرة
برغم أن “المانوسفير” لا يعتمد على أسس فلسفية واضحة، إلا أن بعض أفكاره تستند بشكل غير مباشر إلى تأويلات معينة لفلاسفة ومفكرين مختلفين. من بين هؤلاء يمكن الإشارة إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، على سبيل المثال، حيث غالباً ما يُستشهد به في هذه الأوساط، خصوصاً من خلال مفهوم “إرادة القوة” ونقده للأخلاق المسيحية بوصفها “أخلاق الضعفاء”، عبر تحريف هذه الأفكار لتبرير رؤى ذكورية قائمة على الصراع والتفوق.
من جهة أخرى، يمكن اعتبار الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، المعروف بتشاؤمه ونظرته السلبية تجاه النساء، مصدر إلهام لبعض الخطابات المعادية للنسوية داخل المانوسفير، بخاصة من خلال رؤيته للمرأة كـ”كائن عاطفي وغير عقلاني”.
كذلك، تستخدم كتابات الأمريكية كاميل باجليا، وهي نسوية غير تقليدية، بشكل انتقائي من قبل بعض منظّري المانوسفير للطعن في النسوية المعاصرة، لا سيما عبر نقدها للخطاب النسوي الذي تعتبره متناقضاً مع الطبيعة البيولوجية للجنسين.
وأخيراً، يمكن أيضاً رصد تأثير غير مباشر للفيلسوف الإنجليزي نيك لاند، خصوصاً في أوساط التيارات الأكثر تطرفاً، حيث تلتقي بعض أفكاره حول نظرية “التسريع الرأسمالي” والتسلسل الهرمي الطبيعي مع رؤى المانوسفير التي تمجد المنافسة المطلقة، القوة، والنجاح الفردي كمعايير أساسية لتحديد قيمة الرجل في المجتمع.