عرف تاريخ مصر عبر عصوره المختلفة عدداً كبيرا من الاحتفالات الدينية، الفرعونية والمسيحية والإسلامية، التي ذابت في نسيج المجتمع، وارتبطت في الأذهان بمظاهر ذات طقوس خاصة تسلّلت إلى الموروث الشعبي في ثقافة الأمة، واقترنت بتقديم النذور والقرابين تقرباً لرموز دينية بعينها في مناسبات أُطلق عليها “الموالد”.
لم تعرف مصر القديمة مصطلح “الموّلد” الاحتفالي بمفهومه المعاصر، بل تشير النصوص المصرية إلى “الاحتفال” أو “العيد”، لاسيما في عصر إمبراطورية الدولة الحديثة، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم، فضلا عن “المواكب الدينية” التي كانت تُقام تمجيداً للآلهة وتضرّعاً لها.
وصوّرت نقوش جدران المعابد المصرية احتفالات بأعياد دينية عديدة، أبرزها على سبيل المثال عيد الإله “مين”، وعيد زيارة الإله آمون لمعبد الأقصر، الذي كان يُطلق عليه عيد “أوبت” الكبير، وهو يوافق خروج موكب الفرعون، وتتقدمه القرابين التي يعتزم الكهنة ذبحها في هذه المناسبة، في حين تنقل سفن عبر نهر النيل عدداً من الكهنة، يرافقون سفينة تحمل “هيئة” الإله آمون في أبهى زينة، إلى أن ينتهي الموكب الاحتفالي في المعبد وتُقدّم القرابين.
“موالد أولياء الله”
ويحرص المحتفلون على تقديم أطعمة معينة في هيئة “نذور” يقدمونها لمريدي بعض الأولياء، ترتبط عند الناس بحوادث معينة، مثل تقديمهم “الفول النابت” خلال الاحتفال بمولد السيدة زينب، و”العدس” في الاحتفال بمولد الحسين، و”الخبز” في الاحتفال بمولد السيد أحمد البدوي.
وتستوعب الموالد الشعبية المصرية عناصر دينية وغير دينية، تلبي اهتمام المحتفلين بمختلف أعمارهم، وتتميز بمظاهر شعبية خاصة مثل “الزفّة”، أو ما يعرف بـ “موكب الخليفة”، إلى جانب حلقات ذكر القرآن، وخدمة المولد، والسوق، والألعاب، وسهرة المولد الكبرى التي يُطلق عليها “الليلة الكبيرة”.
كما يحرص كثيرون على إقامة سرادقات كبيرة، أبرزها في احتفالات مولد السيدة زينب في مدينة القاهرة على سبيل المثال، إذ يجتمع فيها زوار المولد و”المريدون” لذكر كراماتها، فضلا عن إقامة سرادقات تحمل لافتات طرق صوفية دينية تشارك في الاحتفال، مثل الطريقة “الأحمدية”، و”الشاذلية”، و”البراهمية”، و”الرفاعية”، وتجتمع كل طريقة بأتباعها في حلقات ذكر القرآن، مع الوقوف في صفوف متقابلة أو دائرية، مرددين عبارات دينية وأدعية.
وبعيداً عن المظاهر الدينية، يعتبر المولد مناسبة تجارية هامة لبيع شتى البضائع مثل بيع الحلوى الشعبية، واللعب، والأطعمة الشعبية، والحلي المصنوعة من المعادن الرخيصة، والتذكارات، والملابس، فضلا عن افتراش الفقراء من الباعة أرض الاحتفال بالمولد لبيع ما لديهم في هذه المناسبة.
وتتميز الموالد الشعبية أيضا بمظاهر ترفيهية، تُقدم خلالها فقرات غنائية دينية، أو فقرات راقصة وألعاب، مثل ألعاب الحظ والرهان، وكذا منصات لتقديم عروض مسرحية شعبية، أبرزها عروض بالدمى أو “الأراجوز”، والملاهي الشعبية التي تجذب الأطفال، والتي لا تخلوا أيضا من بعض الكتابات الدينية والأدعية على الألعاب في مزيج يجمع الديني والترفيهي.
“موالد القديسين”
دخلت المسيحية مصر على يد “القديس الشهيد” مارمرقس في منتصف القرن الأول الميلادي، واستشهد في عام 68 ميلادياً، ثم بدأت حركات اضطهاد ديني عنيفة، استهدفت المسيحيين منذ نهاية القرن الثاني الميلادي وبداية القرن الثالث في عهد الإمبراطور “سيفيروس ألكسندر” (191-211 ميلادياً).
أصبح شهداء المسيحية موضع تكريم من الشعب، وأُقيمت كنائس وأديرة تحمل أسماءهم، كما آمن كثيرون بـ “آلام الشهداء” وتناقلوها فيما بينهم، لاسيما المعجزات التي صاحبت استشهادهم، بحسب التقليد الديني، فقدمت المسيحية نظرة جديدة للآلام، ارتبطت روحيا بمحبة يسوع المسيح، وكُتبت العديد من قصص الشهداء في الأدب القبطي والسرياني.
ويُطلق لفظ “قديس” في المسيحية الأرثوذكسية على كل من يحيا حياة الإيمان، وكل من ارتقى روحيا وظهرت له “معجزات”، مثل السيدة العذراء، والملاك ميخائيل، والأنبا أنطونيوس، والأنبا بيشوي، أو يُطلق على شهداء مثل القديس مارجرجس، والقديسة دميانة. ولا يوصف الشخص بالقديس إلا بعد مرور 50 عاما على وفاته على الأقل.
وبحسب العقيدة الشعبية المصرية، يعيش القديسون في الفكر الجمعي للمسيحيين المصريين لأنهم الجسر العابر بين عالم الأحياء والعالم الآخر، يتواصلون معهم من خلال “أيقوناتهم”.
وعُرفت أعياد القديسين أيضا باسم “الموالد” في الثقافة الشعبية المصرية، على الرغم من أن ذلك ينافي حقيقة المناسبة ولفظها لكونها تحتفل بذكرى استشهاد قديس أو نياحته (موته)، وليس ميلاده، إذ يعتبر هذا اليوم، من الناحية الروحية، اليوم الذي أتم فيه “جهاد الحياة” من أجل المسيحية.
وتعزز الموالد الاعتقاد في قديس معين من خلال إقامة بعض الطقوس الدينية والاحتفالية الشعبية، أبرزها “زفّة الأيقونة”، كما هو الحال في احتفالات مولد العذراء، التي يتقدمها أسقف أو كبير كهنة الكنيسة، ويبارك الزائرين المشاركين في الاحتفال، كما يحمل أحد أفراد الشمامسة أيقونة القديس/القديسة.
ويحرص الزائرون على نيل البركة بملامسة أيقونة القديس أو تقبيلها، والهتاف باسمه، وتُقام زفّة الأيقونة كبداية لأولى الطقوس الدينية للمولد، الذي قد يستمر لمدة أربعة أيام، وتعتبر الصلوات طقوسا أساسية في الاحتفالات، ثم “التمجيد والطِلْبات”، التي تشمل طِلْبات خاصة لحل مشكلات، أو تحقيق أمنيات من خلال “تشفيع” القديس في تحقيق هذه الطِلْبات.
كما تعتبر موالد القديسين مناسبة لتعميد الأطفال، وهو طقس ديني مسيحي يجرى للطفل بعد ولادته، ويفضل بعض الأشخاص من الطبقة الشعبية تعميد الأطفال في الموالد قدوة بطقس تعميد السيد المسيح في نهر الأردن.
وتنتشر في الموالد الفرق الشعبية، التي تستخدم في عزف الألحان آلات ذات أصول مصرية، مثل آلة “المزمار” و”الربابة” و”الناي” و”الدف”، وتحرص الفرق على ترديد ترانيم لتمجيد العذراء والقديسين، مع إشارة إلى سيرة حياتهم، ومن أبرزهم القديس مارجرجس، الذي تُقرأ سيرته شعرا بأسلوب أشبه بطريقة سرد البطولات الشعبية عند المسلمين مثل السيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس، وهو ما دفع بعض المؤرخين إلى ترجيح فكرة استلهام “المسلمين المصريين” هذا النمط الفني الشعبي القبطي وابتكار سير موازية لشخصيات إسلامية في نفس البيئة المصرية، بحسب دراسة جورج نسيم الياس بلامون “الموالد القبطية في مسار العائلة المقدسة”.
وتنطوي مظاهر الاحتفالات المسيحية أيضا على نشاط اقتصادي، حيث تنتشر أماكن بيع الصور واللوحات التي تصور قديسين وشخصيات دينية بارزة، فضلا عن بيع الصلبان والحلي المعدنية، وانتشار رسم الوشوم الذي يطلق عليه في اللغة الشعبية “الدق” على جسد الزائر.
ظلت الموالد محل اهتمام الرحّالة الذين جاءوا إلى مصر عبر عصورها، وقدموا وصفاً لكثير من طقوسها بأسلوب رشيق، بلغ حد الطرافة أحيانا، وهو ما دفع العالم الفرنسي، جاسبار دي شابرول، أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، في دراسته عن عادات وتقاليد المصريين المحدثين ضمن دراسات كتاب “وصف مصر” إلى أن يصف البلاد بأنها “خليط مضطرب من العادات والتقاليد تعود إلى أصول متنوعة تنتج عن أسباب كثيرة”، وتساءل “هل كان يمكن للأمر أن يكون على نحو آخر، في بلد يمكن القول إن كافة الأمم قد اختلطت فيه؟”