بمجرد أن أصبح ماغنوس مايلاند عمدةً لبلدة صغيرة في الطرف الشمالي للنرويج أواخر عام 2021، طرقت ثلاثة وفود من الصين بابه.
يقول مايلاند: “هذا لأنهم يريدون أن يكونوا قوة قطبية عظمى”.
ربما لا يتبادر إلى الذهن اسم الصين، عند التفكير في القطب الشمالي، لكنها مصممة على أن تكون لاعباً رئيسياً في هذه البقعة من العالم. فهي تتنافس على شراء العقارات، والمشاركة في مشاريع البنية التحتية، وتأمل في ترسيخ وجود إقليمي دائم.
وتصف الصين نفسها بالفعل بأنها “دولة قريبة من القطب الشمالي”، على الرغم من أن عاصمتها الإقليمية في أقصى الشمال، هاربين، تقع على خط عرض مدينة البندقية الإيطالية تقريباً.
ويحتل القطب الشمالي منطقة شاسعة، تغطي 4 في المئة من مساحة الكرة الأرضية.
ففي داخل الدائرة القطبية الشمالية، أقصى شمال البر الرئيسي للنرويج، هناك تناقض صارخ بين واقع مدينة التعدين السابقة والصورة البريدية والجبال المغطاة بالثلوج والمضايق المحيطة بها.
لذا، يمكن تخيل مدى الإغراء في فكرة أن تصبح أول ميناء أوروبي لسفن الحاويات القادمة من آسيا، اعتماداً على سرعة ذوبان الجليد القطبي.
ويخطط مدير ميناء المدينة، تيرجي يورغنسن، لبناء ميناء دولي جديد كلياً.
رأيت لمعة في عيني يورغنسن عندما تحدث عن إمكان أن تصبح سنغافورة الشمال الأوروبي، قائلاً “ما نسعى إلى تشييده هنا في كيركينيس هو ميناء شحن عابر، حيث تلتقي ثلاث قارات: أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا”.
وأوضح أن القوانين الجديدة في النرويج تحظر نقل الملكية أو الأعمال التجارية، إذا كان البيع سيضر “بالمصالح الأمنية النرويجية”، مضيفاً أنهم في انتظار توجيهات واضحة من الحكومة حول نوع البنية التحتية الحيوية التي قد يغطيها هذا الأمر.
ويبدو أن رئيس البلدية مايلاند قلق من نوايا بكين؛ حيث قال لبي بي سي: “نريد علاقة مع الصين، لكننا لا نريد الاعتماد عليها”.
“على أوروبا أن تسأل نفسها: إلى أي مدى ترغب في أن تكون معتمدة على الأنظمة الشمولية والاستبدادية؟!”، بحسب مايلاند.
وقد بدأ نهج الصين القائم على “شراء طريقك إلى القطب الشمالي” يُلاقي رفضاً في جميع أنحاء القطب الشمالي الأوروبي.
على سبيل المثال، حاولت بكين شراء حصص في موانئ بحرية في النرويج والسويد، ومطار في غرينلاند، لكن هذه المحاولات واجهت رفضاً.
هذا يدفع الصين – أكبر قوة عظمى ناشئة في العالم – المتعطشة للقطب الشمالي، نحو أحضان روسيا التي تعد أكبر قوة فاعلة في القطب الشمالي.
وتسيطر روسيا على نصف ساحل القطب الشمالي تقريباً، مستقطبة استثمارات صينية، كما يتعاون البلدان عسكرياً في القطب الشمالي أيضاً.
كان البلدان أجريا تدريبات عسكرية مشتركة هنا في الشهر السابق. في يوليو/تموز، قامت قاذفات بعيدة المدى من كلا البلدين بدوريات استفزازية في المحيط المتجمد الشمالي بالقرب من ألاسكا في الولايات المتحدة.
يبدو الأمر كما لو أن بكين وموسكو تنظران إلى حلف الناتو، الذي كثّف مناوراته في القطب الشمالي، وتقولان: يمكننا فعل ذلك أيضاً.
جميع الدول المطلة على القطب الشمالي أعضاء في حلف الناتو باستثناء روسيا. وانضمت فنلندا والسويد بعد الغزو واسع النطاق لأوكرانيا.
تحتاج روسيا إلى استثمارات وجهات تجارية فاعلة مهتمة بتطوير موارد القطب الشمالي كموارد الغاز الطبيعي المسال، وموارد النفط، أو تطوير طريق بحري شمالي كممر ملاحي.
“الصين هي تلك السوق. يبحث البلدان عن سبل لتوسيع تعاونهما السياسي والاقتصادي، بل وحتى العسكري”.
لكن الصين حريصة على عدم التقارب الشديد مع روسيا. فهي تريد تجنب العقوبات الغربية ومواصلة التعامل مع القوى الغربية، داخل القطب الشمالي وخارجه.
ولروسيا تحفظات أيضاً.
يقول أوستاجن: “احذروا المبالغة في تقدير أهمية العلاقة الروسية الصينية. لا تزال روسيا حذرة من السماح للصين بالتغلغل في عمق القطب الشمالي”.
تعتمد موسكو بشكل كبير على مواردها الطبيعية هناك. وتسعى أيضاً إلى جذب مستثمرين آخرين في القطب الشمالي، بما في ذلك الولايات المتحدة، وفقاً للتقارير.
تعتمد روسيا أيضاً على منطقة القطب الشمالي لتخزين الأسلحة الإستراتيجية، وخاصةً في شبه جزيرة كولا، المليئة بالقدرات النووية ومقر أسطولها الشمالي الأسطوري.
في النرويج، يعيش سكان كيركينيس تحت ظلال الدب الروسي المجاور. لطالما كانوا يعيشون هناك. تقع الحدود مع روسيا على بُعد 10 دقائق بالسيارة. وشبه جزيرة كولا تبدو قريبة بشكل غير مريح.
في زمن الحرب الباردة، عُرفت المدينة بأنها وكر للجواسيس، فهي خط مواجهة بين الغرب والاتحاد السوفياتي.
تعتقد النرويج أن روسيا تستخدم منطقة القطب الشمالي لتدريب مجندين جدد على القتال، ولإطلاق قاذفات القنابل منها، لمهاجمة أوكرانيا.
يقول الكولونيل يورن كفيلر لبي بي سي بجانب المياه الصافية لنهر باسفيك الذي يفصل النرويج عن روسيا: “نرى ذلك هنا محلياً. أمامنا مباشرةً تقع مراكز الحدود النرويجية الصفراء الزاهية، ومراكز الحدود الروسية الحمراء والخضراء”.
ومنذ الغزو الشامل لأوكرانيا، ازدادت حوادث تشويش نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) بوتيرة متزايدة، ما دفع حتى الطيارين التجاريين إلى تغيير أنظمة الملاحة.
وتزايدت حالات التجسس على الحدود بشكل كبير، “من استخبارات الإشارات إلى إرسال عملاء إلى النرويج” بحسب كفيلر.
كما أن النرويج وحلفاءها في حلف الناتو في حالة تأهب، تحسباً لغواصات التجسس الروسية وسفن أخرى في القطب الشمالي.
أُتيحت الفرصة لبي بي سي كي تشهد كيفية رصد النرويج لهذا التهديد، بعد حصولنا على تصريح أمني مشدد لدخول مقر القيادة العسكرية المشتركة للبلاد في حقبة الحرب الباردة.