ليس كل الذي نقرؤه سواء؛ فبعضه تمر معانيه بنا كطيف عابر، وبعضه يمكث حينا ثم يمضي.. وبالإضافة إلى هذا وذاك، لا شك أننا سنجد في ما نقرؤه بعضا يتجاوز بتأثيره فينا الشيء المعهود في عمقه وفي أمده.
“ألوان من السعادة”… عنوان لقصة، هي الأولى في مجموعة قصصية للروائي المصري المبدع محمد عبدالحليم عبدالله، يضمها كتاب يحمل العنوان نفسه، قرأتها منذ ما يقرب من أربعين سنة، ومع ذلك يعاودني وحيها بين حين وآخر، كلما وجدت في حكايا الناس وتقلبات الأيام ما يستدعي دعوتها ويستحضر فكرتها؛ ويبدو أن استمرار حضورها في الذهن يأتي من كونها تلامس معنى تتكرر تجلياته في واقعنا المعيش.
هي حكاية خاطر عابر يثير في النفس تساؤلا، وبالسير مع الخاطر والسؤال نتنبه إلى حقيقة أن ما نراه للوهلة الأولى في حياة إنسان ما قد يخفي وراءه الكثير مما يناقض الظاهر، وأننا في بحثنا عن السعادة كثيرا ما تخدعنا المظاهر، كما أننا في الوقت نفسه نغفل عن أشياء ثمينة بين أيدينا لمجرد شعورنا بأن وجودها أمر طبيعي، ولكننا ننسى آخرين هم منها محرومون، ولو قدر لهم أن يضحوا للوصول إليها لكانت عندهم مقدمة على الثروة والمنصب والجاه.
الفكرة التي راودته تأبى الانسحاب بهذه البساطة، فقد عادت إليه بشيء جديد، إذ ذكرته بوجود شخص آخر يعرفه، يملك الأرض والقوة والصحة والهيبة والكلمة المسموعة في المركز كله
فصحيح أن حارس المزرعة، ذلك الإنسان البسيط، لا يستوي بمقياس المال مع مالك المزرعة الثري، ولكن ماذا لو كان المالك عليلا، يمرض إذا انحسر عنه الغطاء في الليل، بينما الحارس وقد بلغ الستين من عمره يجد نفسه شيخا صحيحا سليما، “يأكل بشهيته ويفتل شاربه بقوة ويبرمه، كما كان يفعل أبو زيد الهلالي، ويضرب الأرض بحذاء غليظ اشتراه له ابنه من أحد أسواق العاصمة”؟ إن مجرد استحضار هذه الحقيقة كان كافيا ليستبعد الخفير الرغبة أن يكون في موقع ذلك السيد صاحب الأرض.
ولكن الفكرة التي راودته تأبى الانسحاب بهذه البساطة، فقد عادت إليه بشيء جديد، إذ ذكرته بوجود شخص آخر يعرفه، يملك الأرض والقوة والصحة والهيبة والكلمة المسموعة في المركز كله.. وهنا تتدافع الخواطر، فنعلم أن “كمال أفندي” رغم ذلك ليس أهنأ حالا من صاحبه، بل “لعله يحسد الخادم الذي يمسك له لجام الحصان حتى يثب هو على ظهره؛ لأن هذا الخادم له زوجة تنتظره إذا سكن الليل لتخفف عنه عناء النهار، أما كمال أفندي فقد هربت زوجته مع أحد أقربائه وتركت له طفلا ولهفة وحزنا”.
لم يقف تأمل الخفير عند هاتين الحالتين، بل تعداهما إلى سواهما، ثم عاد بمثل ما عاد في الأوليين.. وفي لحظة من مسار التأمل، تذكر اليوم الذي سمع فيه من فم ابنه ولأول مرة في حياته كلمة “بابا”، وما وجده فيها من رقة، و”حاول الخفير أن يفرض ثمنا لهذه الكلمة عند سماعها لأول مرة؛ فنظر إلى الأرض التي يحرسها وما عليها من بناء وبقر وشجر، فوجدها لا تصلح أن تكون ثمنا لهذه الكلمة”.
كم من قانع بقليل يحقق له الكفاف، رضي به فعاش سعيدا هانئ البال. ولكن لنا هنا أن نتوقف قليلا لنتساءل: هل يعني ذلك أن المال والمنصب والجاه أشياء مذمومة علينا أن نبتعد عنها؟
هنا توقف البحث والتقصي، لكنه لم يستطع أن يجد تحليلا يقبله عقله لما استقر عنده من قناعة… ثم أدرك، بعد أن سأل أحد طلبة الجامعة عن سر سعادته بكلمة “بابا”، أن الله يعطي الفقراء ألوانا من السعادة، أعظم ما فيها أن الأغنياء يعجزون عن شرائها بالمال؛ كأن الله قد صنعها للفقراء خاصة بهم فحسب.
المعاني التي توردها “ألوان من السعادة” يبدو لي أنها لا تقوم على أوهام، إذ إن الواقع يصدقها، ولها في حياة الناس شواهد تؤيدها وتؤكد عليها؛ فكم من ثري لم يصل بثرائه إلى السعادة، وكم من وجيه لم يدرك بمنصبه الهناء، وفي المقابل كم من قانع بقليل يحقق له الكفاف، رضي به فعاش سعيدا هانئ البال. ولكن لنا هنا أن نتوقف قليلا لنتساءل: هل يعني ذلك أن المال والمنصب والجاه أشياء مذمومة علينا أن نبتعد عنها؟ الحق أن الأمر ليس تماما بهذه الصورة.
هذه رغبات طبيعية يسعى أكثرنا للوصول إليها، ثم إنها إذا ما تحققت قد تأتي بالسعادة لإنسان، وقد تحمل معها لآخرين النقيض. ولو تحرينا فهم ذلك لوجدنا أن الإنسان يسعد حقا إن علم أن الخير والهناء ليس في ذات هذه الأشياء، بل في تعاطيه معها، فأحسن إدارتها إن حلت، وتقبل العيش دونها بسلام إذا ارتحلت، لم يبطر إن اغتنى ولم يسخط إذا افتقر، لم يتكبر إذا صار أميرا ولم يتأفف إن وجد نفسه أجيرا، وتيقن في كلتا الحالتين أن الخير في ما اختاره الله.
تبقى السعادة الكبرى لمن جعل همه في الدنيا هو الآخرة؛ فهذا يعيش مع هناء الرضا في الدنيا، ولذة التطلع إلى نعيم الآخرة، وتراه قد قبل الحياة بحلوها ومرها، فحلا له مرها
للإنسان أن يسعى في تحصيل مال ينال به بحبوحة من العيش، وينفق به على من حوله، أو في الوصول إلى منصب مرموق إن كان له أهل وبه حقيق، ولكن لا ينبغي لهذا الإنسان أن يندب حظه إن تأخر عليه المال أو المنصب، ويعلق شعوره بالسعادة بانتظار أن يصلا، وليتأمل في ما هو موجود بين يديه، ليجد حينها أن في حياته عناصر تسعده إن استشعرها وأدرك قيمتها.
وليس لنا أن نستغرب وجود إنسان يجد سعادته في بساطة العيش؛ فالبساطة في فهمها العميق شيء يكبر به الإنسان، خلافا لما يتصوره كثيرون.. ذلك أن رؤيتنا لحجوم الأشياء والذوات تخضع لمعايير نسبية، وعليه فعندما يرى الإنسان إمكانية استغنائه عن الأشياء غير الأساسية، ستغدو هذه الأشياء في عينه صغيرة، ويصبح هو الكبير.
وتبقى السعادة الكبرى لمن جعل همه في الدنيا هو الآخرة؛ فهذا يعيش مع هناء الرضا في الدنيا، ولذة التطلع إلى نعيم الآخرة، وتراه قد قبل الحياة بحلوها ومرها، فحلا له مرها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر: الجزيرة