يصعب الإمساك بخيط واحد يختزل مسيرة دانيال دي لويس، فهو ممثل يعيش الفن كحياة كاملة لا كحرفة. هو الفارس الهادئ الذي كرّمته الملكة بلقب “السير”، والناسِك السينمائي الذي ينسحب من الأضواء ليعيش في عزلته الإبداعية، والعبقري المتحوّل الذي يذوب في شخصياته حتى يكاد يختفي وراءها.
بين الموهبة والانضباط، بين الصمت والعمق، صنع دي لويس أسطورته الخاصة، أسطورة ممثل يختار أدواره كما يختار الناسك طريقه في الجبل، نادر الظهور، لكن كل عودة له حدث فني يترك بصمة لا تُمحى.
اقرأ أيضا
list of 2 items
end of list
هو السير دانيال مايكل بليك دي لويس، المولود في 29 أبريل/نيسان 1957، ويُعد من أهم الممثلين في تاريخ السينما العالمية. حصد خلال مسيرته عددا كبيرا من الجوائز، من بينها 3 جوائز أوسكار، و4 جوائز بافتا، و3 جوائز من نقابة ممثلي الشاشة، وجائزتان غولدن غلوب. غير أن قيمته لا تُقاس بتعداد الجوائز، بل بإخلاصه العميق لكل ما يؤديه، سواء على الشاشة أو في حياته الشخصية كأبٍ وإنسان.
View this post on InstagramA post shared by Anemone (@anemonemovie)
النجارة والتمثيل خلاصا من الفوضى
وُلد دانيال في لندن داخل بيت يعبق بسحر الفنون، فوالده سيسيل دي لويس كان شاعرا بارزا، ووالدته جيل بالكون ممثلة تنتمي إلى عائلة فنية عريقة. من جهة الأم، يعود نسبه إلى مايكل بالكون، أحد أبرز منتجي السينما البريطانية وأحد أعمدة أستوديو “إيلينغ” (Ealing) الشهير.
بيد أن ابن هذه العائلة المثقفة الراقية عاش طفولة صعبة في حي غرينتش بلندن، حيث واجه تنمر زملائه بسبب خلفيته الدينية وطريقته الراقية في الكلام والتصرف. هذا ما دفعه لتعلّم لهجة الحي وحركاته حتى يندمج معهم، وقد وصف لاحقا تلك التجربة بأنها كانت “أول دور تمثيلي حقيقي” له.
وفي سنوات المراهقة، تحول دي لويس إلى فتى متمرد، كثير المشاكل، تورط أحيانا في سرقات بسيطة وسلوكيات متهورة، كأنه كان يبحث عن ذاته وسط ضياع البدايات. وبسبب هذا السلوك أرسله والداه إلى مدرسة داخلية في مقاطعة كنت، حيث تعرف لأول مرة على 3 أمور ستتحول إلى شغفه الدائم: النجارة، والتمثيل، وصيد السمك. لكن الأجواء الصارمة في المدرسة لم تناسبه، فانتقل بعد عامين إلى مدرسة أخرى أكثر حرية وإبداعا في هامبشاير، حيث كانت شقيقته تدرس. وهناك ازدهرت موهبته في التعبير والأداء.
وفي سن الـ14، شارك لأول مرة في السينما بدور صغير جدا في فيلم “أحدٌ دامٍ” (Sunday Bloody Sunday)، إذ جسد شخصية مراهق يعبث بالسيارات في مشهد عابر دون أن يُذكر اسمه في التترات، كانت تلك التجربة البسيطة بداية شغفه الحقيقي بالتمثيل.
وفي عام 1972، عاش تجربة إنسانية قاسية حين توفي والده بعد صراع مع السرطان أثناء إقامتهما في منزل الكاتبين كينغسلي أميس وإليزابيث هوارد، وهي خسارة تركت أثرا بالغا في نفسه.
وبعد تخرجه من المدرسة عام 1975، بدأ يبحث عن طريقه بين الفن وحرفة النجارة، فتقدم لتدريب مهني في صناعة الأثاث لكنه رُفض لعدم امتلاكه الخبرة الكافية. لاحقا التحق بمدرسة “بريستول أولد فيك” (Bristol Old Vic) المسرحية، حيث صقل موهبته، وبدأ أولى خطواته الجادة على خشبة المسرح، في رحلة ستقوده لاحقا إلى القمة كأحد أهم الممثلين في العالم.
View this post on InstagramA post shared by Focus Features (@focusfeatures)
كيف صنع دي لويس أسطورته؟
المخرج بول توماس أندرسون قال عن أسلوبه: “إنه لا يؤدي الشخصية، بل يتحول إليها بالكامل. لا يقلدها أو يتقمصها فحسب، بل يعيشها حتى آخر خلية في جسده، مما يجعل عملي كمخرج أكثر سهولة، لأن الشخصية تكون حاضرة أمامي بكل تفاصيلها”.
View this post on InstagramA post shared by Persistence Of Cinema (@persistence.of.cinema)
ذلك يختصر جوهر منهجية دي لويس التمثيلية التي ميزته عن غيره، ووضعته في صف الكبار إلى جانب مارلون براندو، اللذين يجمع بينهما اتباع أسلوب التمثيل المنهجي (Method Acting). كلاهما لا يكتفي بالأداء أمام الكاميرا، بل يعيش الشخصية خارجها أيضًا.
وقد يرى البعض في هذا النهج نوعا من المبالغة أو الاستعراض، لكن في حالة دي لويس هو إيمان حقيقي بضرورة الصدق الكامل في الأداء. ففي فيلم “قدمي اليسرى” (My Left Foot) مثلا، عاش تجربة الشخصية بالكامل، قضى فترة التصوير كلها على كرسي متحرك، وتعلم الرسم بقدمه اليسرى مثل بطله كريستي براون. لم يفعل ذلك من أجل جائزة أو شهرة، بل لأن الأصالة عنده واجب فني وأخلاقي.
وفي “عصابات نيويورك” (Gangs of New York) تحول إلى زعيم عصابة دموي بكل ما تحمله الكلمة من قسوة، بينما في “سيكون دم” (There Will Be Blood) جسد رجل النفط الجشع بعمق نفسي مذهل. في كل مرة يظهر بشكل مختلف تماما، سواء في نبرة صوته أو ملامحه أو حتى نظراته.
ما يميزه حقا هو حسه العالي بالتفاصيل، فكل حركة، كل وقفة، كل نفس محسوب بدقة ليعكس الحالة النفسية للشخصية. لهذا، كانت أدواره دائما غنية بالعاطفة والصدق، قادرة على إيصال الألم أو الهوس دون أي افتعال.
ربما كان هذا الانغماس الكامل في الأداء هو ما جعله يسعى للعزلة، أو يتوقف عن التمثيل لفترات طويلة. فالتوغل في حيوات الآخرين يرهق الموهبة ويستنزف الروح، ويجعل العودة إلى الذات رحلة صعبة في كل مرة. لذلك، لم تكن فترات انقطاعه عن السينما تمردا على المهنة، بل وسيلة للحفاظ على توازنه الداخلي. فهو يحتاج وقتا طويلا للتفكير والتحضير قبل أي دور جديد، لأن الانتقال السريع بين الشخصيات يُضعف “الموارد الداخلية” التي يستمد منها طاقته الإبداعية.
View this post on InstagramA post shared by Anemone (@anemonemovie)
وبعد إعلان اعتزاله عام 2017، ظن كثيرون أن رحلته مع التمثيل انتهت، لكنه فاجأ العالم في عام 2025 بإعلانه العودة من خلال فيلم جديد بعنوان “شقائق النعمان” (Anemone) من إخراج ابنه رونان.
وفي تصريح لاحق أوضح أن العودة إلى التمثيل لم تكن مجرد مشروع فني، بل فعل محبة وامتنان، وهدية روحية يرى فيها فرصة لإحياء علاقة الأبوة عبر الخلق المشترك. فبعدما اتجه رونان إلى الإخراج، وجد دانيال أن كسر عزلته كان ثمنا يسيرا أمام متعة العمل مع ابنه.
المصدر: الجزيرة