في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، كان ملايين المصريين يتحلقون حول أجهزة التلفزيون في موعد إذاعة مسلسل “رأفت الهجان” لمشاهدة العميل المصري رأفت، الذي حمل في إسرائيل اسم “ديفيد شارل سمحون” وهو يصول ويجول في إسرائيل ليجمع المعلومات ويرسلها إلى وطنه مصر.
لقد ارتبط اسم رأفت الهجان، واسمه الحقيقي رفعت علي سليمان الجمال، بأحد أكثر القصص إثارة وغموضاً في تاريخ المخابرات المصرية، وقد تمّ توثيق هذه القصة بشكل روائي في كتاب “كنت جاسوساً في إسرائيل” للكاتب صالح مرسي.
ويروي هذا الكتاب، الذي يُعدّ مصدراً رئيسياً لفهم قصة الجمال، قصة حياة رجل عاش تحت هوية مزيفة في إسرائيل لمدة 17 عاماً، مقدماً معلومات حيوية للمخابرات المصرية.
ونشر صالح مرسي القصة في البداية، على شكل حلقات في مجلة “المُصور” المصرية، ومنذ ظهور أول حلقة إلى الوجود في 3 يناير/كانون الثاني من عام 1986، استطاعت أن تجذب انتباه الكثيرين الذين تابعوها بشغف كبير.
وفي الوقت الذي يقدم فيه المسلسل والرواية الجمال كبطل قومي مصري، ظهرت روايات إسرائيلية تشكك في ولاء رفعت الجمال لمصر، مدعية أنه كان عميلاً مزدوجاً. فما قصة هذه الشخصية الغامضة؟
وبعد وفاة والده، الذي كان يتاجر بالفحم، عام 1936، قرر أخوه الأكبر غير الشقيق، المدرس سامي، الانتقال بالعائلة من دمياط إلى القاهرة، حيث تم تسجيل رفعت في مدرسة التجارة المتوسطة.
وبعد تخرجه، تقدم رفعت للعمل كمحاسب في شركة نفط بالبحر الأحمر، ليطرد لاحقاً من عمله بعد اتهامه باختلاس أموال الشركة، مما دفعه للانتقال من عمل إلى آخر، حتى عمل كمساعد محاسب على سفينة حملته إلى العديد من الموانئ الأوروبية.
وقد بدأت رحلة الجمال مع المخابرات المصرية بعد ثورة يوليو/تموز من عام 1952، عندما كان جهاز المخابرات العامة المصرية في طور التأسيس تحت قيادة زكريا محيي الدين.
وكان الجمال قد تورّط في أعمال احتيال وتزوير أثناء سفره في أوروبا، مما أدى إلى اعتقاله في مصر عام 1952، وهنا، رأت المخابرات فرصة لتجنيده كجاسوس بسبب قدراته الاستثنائية في التخفي وتعدّد هوياته.
كما تلقى تدريباً على عادات وثقافة اليهود، بما في ذلك التمييز بين اليهود الأشكناز والسفارديم، ليتمكن من التأقلم داخل المجتمع الإسرائيلي، وأُعطي هوية جديدة باسم “جاك بيتون”، وهو يهودي مصري هاجر إلى إسرائيل عام 1955.
وبدأت رحلته كجاسوس في قلب المجتمع الإسرائيلي، ويحمل في المخابرات المصرية الرقم “العميل 313″، وقد حول صالح مرسي في المسلسل اسم “جاك بيتون” إلى “ديفيد شارل سمحون”.
في قلب إسرائيل
وفقاً لرواية صالح مرسي، نجح الجمال في بناء شبكة علاقات واسعة في إسرائيل، حيث أسس شركة سياحية ناجحة كغطاء لأنشطته. وهذه الشركة، التي أُطلق عليها اسم “سي تورز”، مكنته من التواصل مع شخصيات بارزة في المجتمع الإسرائيلي، مثل بعض الساسة والعسكريين.
ومن أبرز إنجازاته، حسب الرواية المصرية، دوره في حرب أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973، حيث زود مصر بمعلومات دقيقة عن خط بارليف، مما ساهم في نجاح العبور المصري في بداية تلك الحرب.
ويصور الكتاب الجمال كشخصية وطنية، مدفوعة بحب الوطن، رغم التناقضات في حياته، فقد عاش حياة مزدوجة، حيث كان يظهر كرجل أعمال يهودي ناجح في إسرائيل، بينما كان ينقل معلومات سرية إلى مصر.
ويبرز الكتاب التضحيات التي قدمها، بما في ذلك عيشه بعيداً عن وطنه وعائلته، والضغط النفسي الناتج عن الحفاظ على سريته.
وتتناول رواية صالح مرسي تفاصيل حياة الجمال الشخصية أيضاً، بما في ذلك زواجه من فالتراود بيتون، وهي امرأة ألمانية تزوجها خلال زيارته لألمانيا في عام 1963 وأنجب منها نجله دانيال، واستمرت علاقتهما حتى وفاته. ولم تعرف بيتون هويته الحقيقية إلا بعد وفاته.
وتقول فالتراود بيتون إنّ رفعت الجمال قدم نفسه إليها، على أنه يهودي إسرائيلي من أصل فرنسي-مصري اسمه جاك بيتون.
وبعد وفاة أم جاك، تزوج أبوه للمرة الثانية من امرأة فرنسية وكانت لها ابنتان، فلم يشعر بالراحة في الحياة معهم وهرب من الأسرة.
كما روت فالتراود بيتون، التي اطلعت على مذكرات زوجها بعد وفاته، كيف تمكن الجمال من كشف الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي كان يعمل في سوريا تحت اسم “كامل أمين ثابت”.
وتقول إنّ الجمال تعرف على كوهين في القاهرة عام 1954، عندما اعتُقلا معاً بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وعندما شاهد صور كوهين مع ضباط سوريين في صحيفة عربية، أبلغ المخابرات المصرية عن هوية كوهين، والتي نقلت بدورها المعلومات إلى سوريا، مما أدى إلى القبض على كوهين وإعدامه.
والجدير بالذكر أنّ هناك رواية أخرى عن سقوط كوهين، تشير إلى أنه تم القبض عليه في سوريا نتيجة لعملية رصد اتصالاته، والتي قامت بها الأجهزة الأمنية السورية.
الرواية الإسرائيلية
في مقابل الرواية المصرية، تقدم الرواية الإسرائيلية وجهة نظر مختلفة تماماً عن قصة رفعت الجمال.
ووفقاً لهذه الرواية، فإنه بعد وصوله إلى إسرائيل تحت اسم جاك بيتون، اكتشفت المخابرات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك) أنشطته الجاسوسية من خلال شريكه التجاري إمري فريد، الذي كان يعمل لصالح الشاباك.
وتمّت مداهمة منزله في تل أبيب، وخلال التحقيق، أقنعه ضابط المخابرات مردخاي شارون بالعمل لصالح إسرائيل مقابل إطلاق سراحه.
ويزعم الإسرائيليون أنّ الجمال وافق، وبدأ في نقل معلومات مضللة إلى المخابرات المصرية، ممّا ساهم في نجاح إسرائيل في حرب 1967، حيث أبلغ المصريين أنّ إسرائيل لن تهاجم سلاح الجو المصري، بينما كانت إسرائيل تخطط لضرب المطارات المصرية، ممّا أدى إلى تدمير معظم الطائرات المصرية على الأرض.
التناقض الإسرائيلي والرد المصري
ومع ذلك، هناك تناقض في الروايات الإسرائيلية.
ففي حين ادعت بعض الصحف أنّ الجمال كان عميلاً مزدوجاً، نفى نائب رئيس الشاباك السابق، جدعون عزرا، معرفته بوجود جاسوس يُدعى جاك بيتون.
كما أشار رئيس الموساد السابق إيسر هاريل إلى أنّ السلطات الإسرائيلية شعرت باختراق أمني كبير، لكنها لم تشك في بيتون.
ولقد أثارت هذه التناقضات شكوكاً حول صحة بعض الروايات الإسرائيلية الصحفية. واعتبر البعض أنها جاءت كرد فعل على النجاح الجماهيري الكبير لمسلسل “رأفت الهجان” في العالم العربي عام 1988.