رحلة إلى «قلب» كوريا الجنوبية… عندما يتلاقى التاريخ والثقافة

من سيول، واصل المؤتمر العالمي للصحافيين أعماله في الأيام التالية، بالتوقف في المنطقة منزوعة السلاح على الحدود مع كوريا الشمالية، وفي جزيرة جيجو، وفي مدن أنسيونغ، وسوون، وسيهونغ، وإنتشون.

سيول

ومن بين جميع المدن التي زرناها، كانت سيول هي الأكثر تنوعًا من حيث المزيج بين الحداثة والتقاليد.

تعتبر سيول إحدى أكثر المدن تقدمًا تكنولوجيًا في العالم، حيث تجسّد ملامح تطور كوريا الجنوبية في مجالات مثل التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة.

وعلى الرغم من تطورها التكنولوجي الهائل، لا تزال سيول محافظة على تراثها الثقافي الغني، حيث ينعكس ذلك في المعابد القديمة والأسواق التقليدية.

سيول… التقدم والتكنولوجيا في مدينة واحدة

إحدى المحطات المثيرة في سيول، كانت زيارة منطقة كانغنام، التي تشتهر بأنها المركز المالي والتجاري في المدينة، وإضافة إلى المعمار الحديث، يوجد هنا العديد من المراكز التجارية التي تسلّط الضوء على الابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة.

خلال الجولة في سيول، كان من الواضح كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتماشى مع الثقافة التقليدية، حيث نجد العديد من الفعاليات الثقافية التي تواكب العصر، مثل مهرجانات التكنولوجيا والابتكار التي تقام في المعالم الثقافية القديمة.

مكتبة بيولمادانغ

في قلب العاصمة سيول، تقع مكتبة بيولمادانغ، وهي واحدة من أبرز المعالم الثقافية التي أُعيد تصميمها لتجمع بين الثقافة الحديثة والهدوء المعماري الفريد. المكتبة تقع في حي جانجنام الشهير، وتعد واحدة من أكبر المكتبات في كوريا الجنوبية.

مكتبة بيولمادانغ ليست مجرد مكتبة تقليدية، بل هي مساحة فنية وتثقيفية تهدف إلى تقديم بيئة غير تقليدية للقراءة والتعلّم. يتميز هذا المكان بجدار الكتب العملاق الذي يمتد على أكثر من 10 طوابق، إضافة إلى المساحات المفتوحة التي تسمح للزوار بالتفاعل مع الكتب والأنشطة الثقافية المختلفة. كما توفر المكتبة مناطق مخصصة للأبحاث والدراسة، حيث يمكن للمواطنين والزوار الاستفادة من هذه المرافق للبحث في مواضيع متنوعة.

وما يميز هذه المكتبة عن غيرها هو أنها ليست مجرد مركز لقراءة الكتب، بل تعد مكانًا يحتفل بالثقافة الكورية المعاصرة. هناك معارض فنية وعروض ثقافية تُقام بانتظام داخل المكتبة، مما يجعلها وجهة مثالية للمهتمين بالفن والمجتمع الكوري.

المنطقة المنزوعة السلاح

كانت أولى محطاتنا في كوريا الجنوبية، بعد سيول، هي زيارة المنطقة المنزوعة السلاح (DMZ)، تلك المنطقة التي تشكّل الحدود بين كوريا الجنوبية والشمالية.

هي إذن تجربة استثنائية، خصوصاً بعد عبور «جسر التوحيد» والوصول إلى مدينة باجو الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع كوريا الشمالية.

ومن خلال منظارات الرصد في «مرصد دورا»، الواقع على بُعد نحو 56 كيلومترًا شمال سيول، يمكن للزائر مشاهدة قرى ومبانٍ داخل حدود كوريا الشمالية، بما في ذلك قرية كيجونغ دونغ ومدينة كيسونغ الصناعية، التي كانت رمزًا للتعاون المشترك حتى توقف المشروع عام 2016.

تعد هذه المنطقة واحدة من أكثر النقاط الحدودية المثيرة للاهتمام في العالم، فهي تمثّل الفصل الجغرافي بين دولتين تفصل بينهما 70 عاما من النزاع والحروب. زيارة هذه المنطقة تحمل دائما مشاعر مختلطة، فهي تثير في النفس مشاعر التوتر التاريخي، لكنها أيضا تقدّم فرصة لمعايشة الحلم المستقبلي للسلام.

«كامب غريفز»… القاعدة العسكرية التي تحوّلت إلى مركز للسلام

«كامب غريفز»

وبعد المرور بإجراءات أمنية مشددة، تابعنا الطريق إلى «كامب غريفز»، الذي كان في السابق قاعدة عسكرية أميركية، وتحوّل اليوم إلى مركز ثقافي يحمل رسالة السلام والاتصال بين الشعوب. مثل هذا التحول من موقع عسكري إلى مساحة تعليمية يشير إلى رغبة كوريا الجنوبية في الانطلاق نحو المستقبل بإيجابية، من دون أن تنسى التاريخ المأساوي الذي مرّ به البلد.

في «كامب غريفز»، يمكن للزوار التعرف على التاريخ العسكري للمنطقة، ورؤية كيفية تحوّل مكان كان يعج بالصراعات إلى مركز للسلام، يحتفل بآمال الوحدة والتعاون بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.

وبين جدران هذا الموقع، تشعر بثقل التاريخ يحيط بك من كل جانب، ويراودك تأمل عميق حول كيف يمكن لمكانٍ ارتبط بالحرب أن يصبح مساحة للحوار والتلاقي. كان مشهداً لافتاً أن يُسمح لنا بالتقاط الصور هناك فقط.

في إحدى زوايا المعسكر، لفت انتباهنا تمثال فني لغزال ذي قرون كثيرة، يتألف من أغصان شجر تلتف بشكل مدهش. هذا التمثال، الذي يُطلق عليه اسم «One»، يحمل في طياته رسالة عن الوحدة والاتصال بين الإنسان والطبيعة. تشعر بأنه رمز حقيقي للسلام، وهو يتماشى مع رؤية المعسكر كمكان للتأمل والتعليم حول أهمية السلام والتفاهم.

جزيرة جيجو… وحوريات البحر

جزيرة جيجو، التي تُلقب أحيانًا بـ «هاواي آسيا»، تمثّل واحدة من أبرز وجهات السياحة في كوريا الجنوبية. تتميز هذه الجزيرة بتاريخ طبيعي فريد من نوعه، حيث تعد جزءاً من سلسلة الجزر البركانية التي نشأت نتيجة النشاط البركاني في المنطقة. ما يجعل جيجو مميزة ليس فقط جمالها الطبيعي، بل أيضا دورها المتزايد في مجال الابتكارات البيئية والطاقة المتجددة.

وخلال زيارتنا، تم التطرق إلى المشاريع البيئية المستدامة التي تهدف إلى تحويل جزيرة جيجو، التي تجمع بين سحر الطبيعة والابتكارات البيئية، إلى نموذج عالمي للطاقة المتجددة. تسعى الجزيرة لتحقيق هدفها الطموح في أن تكون خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2035، عبر توظيف أحدث التقنيات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

أحد المشاريع الأكثر إثارة للاهتمام هو تحويل جيجو إلى مركز عالمي للطاقة المتجددة، بحيث يصبح بمقدور الجزيرة أن تُصدّر الطاقة النظيفة إلى بقية مناطق كوريا الجنوبية. هذا المشروع يتماشى مع رؤية البلاد المستقبلية التي تركز على الاستدامة البيئية.

تتصدر جيجو حركة الطاقة المتجددة في كوريا الجنوبية، بأهداف طموحة للاستدامة. وبينما يسعى معظم العالم إلى تحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050، تسعى جيجو إلى تحقيق الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2035، متقدمةً بذلك على الهدف الوطني لكوريا الجنوبية بخمسة عشر عاما.

ولكن هذا ليس الإنجاز البيئي الوحيد للجزيرة، فهي تحمل لقب أفضل مدينة للسيارات الكهربائية في كوريا الجنوبية، وتحتضن إحدى أكبر مزارع الرياح في البلاد، وبدأت العام الماضي أول مبيعات تجارية للهيدروجين الأخضر في البلاد.

وإلى جانب مشاريعها البيئية، تتميز جزيرة جيجو بثقافتها الفريدة، حيث يمكن للزوار التعرف على تقاليد الـ «هاينيو» (Haenyeo) التي اشتهرت بها نساء جيجو.

«بيولمادانغ» ليست مجرد مكتبة تقليدية بل مساحة فنية وتثقيفية تهدف إلى تقديم بيئة غير تقليدية للقراءة والتعلّم

الـ «هاينيو» هو اسم يُطلق على نساء الغوص في جزيرة جيجو، وهنّ نساء يعملن في صيد المأكولات البحرية عبر الغوص الحر من دون أجهزة تنفّس، وهي تقليد فريد يعود إلى القرن السابع عشر، ويستمر حتى اليوم، رغم تقلّص أعدادهن بشكل كبير.

وتتراوح أعمار نساء الـ «هاينيو» بين الثلاثين وما بعد السبعين، يغطسن في أعماق قد تصل إلى 10 أو 20 مترا، لاصطياد المحار، والأخطبوط، ونوع خاص من الأصداف البحرية يسمى «أبالون».

في عام 2016، تم إدراج تقاليد الـ «هاينيو» ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية من قبل «يونسكو»، تقديرا لصمود هذه المهنة النادرة أمام التحديات الحديثة، مثل التطور الصناعي، وتراجع أعداد الـ «هاينيو» بسبب التقدّم في السن والعزوف الشبابي عنها.

يقول محافظ الجزيرة أوه يونغ هون: «تشتهر جيجو بثلاثة أشياء: صخورها ورياحها ونسائها». ويتابع، في إشارة إلى قوى الطبيعة الثلاث التي تُشكل ماضي الجزيرة وحاضرها ومستقبلها.

صناعة الفضاء

وتتجاوز طموحات جيجو السياحة البيئية والاستدامة، فهي تبرز أيضا كمركز لصناعة الفضاء الخاصة.

وتعد الجزيرة موطنا لأول محطة أرضية خاصة للأقمار الاصطناعية في كوريا الجنوبية، والتي أنشأتها شركة كونتيك الفضائية عام 2019.

وتأتي طموحات جيجو في وقت مهم للجزيرة.

فقد شهدت هذا العام مرور 77 سنة على بدء انتفاضة سكان جيجو ضد الحكم العسكري الأميركي بعد تحرير كوريا من اليابان. وقُتل ما يُقدّر بنحو 30 ألف شخص في حملة قمع عنيفة للاحتجاجات بين 3 أبريل 1948 و1954.

جزيرة تارتاروغا

جزيرة تارتاروغا هي جزيرة صناعية تجمع بين مجموعة من الأنشطة الرياضية المائية، وتعد مركزا عالميا للترفيه البحري مع مسابقات دولية في رياضة ركوب الأمواج في «ويف بارك»، أكبر حديقة أمواج صناعية في العالم. تحتوي الجزيرة أيضا على مرافق أخرى، مثل مسابح للغوص، ويخوت، وزوارق الموز، وغيرها. كما تعد الجزيرة أيضا مركزا للتعليم البيئي والحفاظ على البيئة.

تم إنشاء بحيرة شيفا، التي تقع فيها جزيرة تارتاروغا في البداية لدعم تطوير هذه المدينة الجديدة، من دون الأخذ في الاعتبار المشكلات المحتملة للتلوث. وبسبب كونها بحرًا مغلقًا، تعرّضت البحيرة للتلوث الشديد، مما أدى إلى هجرة المواطنين إلى مدن أخرى، بسبب استحالة العيش في المنطقة.

ومن خلال الجهود المجتمعية والحكومية لاستعادة البيئة، تم تحويل البحيرة إلى نظام بيئي مزدهر، وتم تصنيفها من قبل «يونسكو» كموقع لتوضيح علم البيئة المائية.

وتحتوي المنطقة أيضًا على محطة طاقة المد والجزر التي تستخدم مياه البحر لتوليد الكهرباء، مما يسهم في التنمية الإقليمية.

الفنون الشعبية الكورية

زرنا قاعة عروض «نامسادانغ» في مدينة آنسيونغ، التي تُعتبر واحدة من أبرز معالم الفنون الشعبية الكورية. وتشكّل هذه القاعة مركزا ثقافيا مهما يحتضن إرث فرقة «نامسادانغ» التاريخية، التي كانت مشهورة بجولاتها المتنقلة منذ عصر سلالة جوسون، وما زالت اليوم تبرز كرمز ثقافي وفني يعكس الهوية الكورية.

وخلال زيارتنا للمركز، شاهدنا عرض «نامسادانغ نوري»، الذي يتكون من 6 أجزاء فنية متنوعة، بما في ذلك الموسيقى الإيقاعية (بونغمول)، عروض التوازن على الحبال.

 

المصدر: الجريدة
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments