في منزل مزدحم في مدينة برادفورد، الواقعة شمال انجلترا، تتحدث ثلاث شقيقات بحيوية في منزلهم الذي يبدو أنه يشهد حدثاً مهماً. تجلس خبيرة تجميل على الأريكة، تصفف شعورهن وتُعنى بزينتهن. الغرفة تشع دفئاً ومرحاً وضحكاً.
يبدو الأمر كما لو كان مشهداً من رواية للأديبة الإنجليزية الشهيرة جين أوستن، لثلاث فتيات في أواخر العشرينيات من العمر، مفعمات بالمرح، يتبادلن القصص. وكمعظم روايات أوستن، غالباً ما يتحول الحديث إلى الزواج.
تستعد الأخوات لحفل زفاف عائلي في عطلة نهاية الأسبوع، فالعريس والعروس أبناء عمومة من الدرجة الأولى. هذا الأمر ربما يكون مُستهجناً في الثقافة الغربية، لكن بالنسبة لهذه العائلة ولبعض مناطق برادفورد، يعد الأمر شائعاً إلى حد كبير.
تزوجت عائشة، التي تبلغ من العمر 29 عاماً وهي كبرى أخواتها الثلاث، من ابن عمها في عام 2017. ولديها طفلان من زوجها الذي تصف علاقتها به بأنها سعيدة.
وترى مليكة أن التعليم فتح أمامها باباً للفرص المختلفة، “فيما مضى، حتى لو تلقت الفتاة تعليماً، لم يكن من المتوقع منها إكمال مشوارها. وكانت ستفكر في الزواج. أما الآن فالعقلية مختلفة تماماً”.
وحتى الآن، أمضى الباحثون في جامعة مدينة برادفورد ثمانية عشر عاماً في دراسة بعنوان “مولود في برادفورد”، وهي واحدة من أكبر التجارب الطبية من نوعها.
فبين أعوام 2007 و 2010، قام الباحثون بدراسة حالة أكثر من 13 ألف طفل في المدينة، ثم تابعوهم عن كثب من الطفولة إلى المراهقة.
وخلص الباحثون في البيانات المنشورة في الأشهر القليلة الماضية، والتي جرى تحليلها في حلقة من سلسلة “مولود في برادفورد” على راديو بي بي سي 4، إلى أن مصاهرة أبناء العمومة من الدرجة الأولى قد يكون له عواقب أوسع مما كان يُعتقد سابقاً.
وتتجلى المخاطر الصحية على الأطفال، التي قد تزداد فرصتها بزواج الأقارب، في إصابتهم باضطراب مُتَنَحٍ، كالتليف الكيسي أو مرض فقر الدم المنجلي.
ووفقاً للنظرية الكلاسيكية في علم الوراثة التي وضعها عالم الأحياء النمساوي غريغور مندل، فإذا كان كلا الوالدين يحملان جيناً مُتنحياً، فهناك احتمال بنسبة واحد إلى أربعة أن يرث طفلهما الحالة الصحية. وعندما يكون الوالدان من أبناء عمومة، من المرجح أن يكونا كلاهما حاملين للجين.
ويحمل طفل أبناء العمومة من الدرجة الأولى احتمال وراثة اضطراب جين متنحٍ بنسبة 6 في المئة، مقارنة بـ 3 في المئة بالنسبة لعامة الناس.
ولم يعتمد الباحثون على دراسة تشخيص الطفل باضطراب وراثي متنحٍ محدد وحسب، بل قاموا بدراسة عشرات البيانات، وراقبوا العديد من المؤشرات، بدءاً من تطور الكلام واللغة لدى الأطفال، إلى تواتر احتياجهم إلى الرعاية الصحية، إلى أدائهم في المدرسة، ثم استخدموا نموذجاً رياضياً لمحاولة إقصاء آثار الفقر ومدى تعليم الوالدين، كي يتمكنوا من التركيز بشكل مباشر على تأثير “صلة القرابة للوالدين”.
وخلص الأطباء إلى أنه حتى بعد التحكم في عوامل كالفقر، فإن الطفل المنحدر من أب وأم من أبناء العمومة من الدرجة الأولى في برادفورد، لديه احتمال بنسبة 11 في المئة لحدوث مشكلة في الكلام واللغة، مقابل 7 في المئة لطفل لا تربط والديه صلة قرابة.
وخلص الباحثون أيضاً إلى أن طفل أبناء العمومة من الدرجة الأولى لديه فرصة بنسبة 54 في المئة للوصول إلى “مرحلة جيدة من النمو”، مقابل 64 في المئة للأطفال الذين لا تربط آباؤهم صلة قرابة، بحسب تقييم حكومي يُجرى لجميع الأطفال في سن الخامسة في إنجلترا.
ونحصل على مزيد من المعلومات حول وضعهم الصحي من خلال عدد الزيارات للطبيب العام. حيث يحصل أطفال أبناء العمومة من الدرجة الأولى على ثلث مواعيد الرعاية الأولية بالمقارنة بالأطفال الذين لاتوجد صلة قرابة بين والديهم، بمعدل أربعة بدلاً من ثلاثة في السنة.
والأمر الجدير بالملاحظة هو أنه حتى بعد أن نأخذ في الاعتبار الأطفال في تلك المجموعة الذين يعانون بالفعل من اضطراب متنح تم تشخيصه، فإن الأرقام تشير إلى أن زواج الأقارب قد يؤثر حتى على هؤلاء الأطفال الذين لا يعانون من اضطراب متنحي يمكن تشخيصه.
ويقول إن الدراسة “مثيرة للاهتمام لأنها تتيح الفرصة لتطوير استجابة أكثر دقة، ووضع خطة محكمة للتدخلات الطبية والعلاجات”.
قلق متزايد
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا يضيف إلى القلق المتزايد بين العلماء الذي لفت انتباه المشرعين في جميع أنحاء أوروبا. فقد اتخذت حتى الآن دولتان اسكندنافيتان إجراءات لحظر زواج الأقارب تماماً. ففي النرويج، أصبح زواج أبناء العم غير قانوني العام الماضي؛ وفي السويد، سيدخل الحظر حيز التنفيذ في العام المقبل.
وفي المملكة المتحدة، قدم النائب المحافظ ريتشارد هولدن مشروع قانون لحظر هذا الزواج، وإضافتها إلى قائمة الزيجات غير القانونية (إلى جانب الآباء والأبناء والأشقاء والأجداد). لكن حكومة حزب العمال تقول إنه “لا توجد خطط” لفرض حظر. وفي الوقت الحاضر، لا تزال المملكة المتحدة تتبع سياسة “الاستشارة الوراثية”، حيث يتم تثقيف الأزواج من أبناء العمومة حول مخاطر إنجاب الأطفال، وتشجيعهم على إجراء فحص إضافي أثناء الحمل.
ولكن وسط القلق بشأن صحة الطفل والضغوط على هيئة الخدمات الصحية الوطنية، يتساءل بعض الأكاديميين عما إذا كانت هناك حاجة إلى نهج معزز للاستشارة، مع المزيد من التمويل والتدخل الدقيق.
وكان زواج الملكة فيكتوريا واحداً من تلك الزيجات، حيث تزوجت من ابن عمها من الدرجة الأول الأمير ألبرت. وتحفل رواية ويذرنج هايتس بالأمثلة على زواج أبناء العم.
وبحلول القرن العشرين، انخفضت نسبة الزيجات بين أبناء العمومة إلى حوالي 1 في المئة لكنها لا تزال ممارسة شائعة نسبياً بين بعض الأقليات في جنوب آسيا. وفي ثلاثة أحياء في برادفورد، تزوجت ما يقرب من نصف السيدات من المجتمع الباكستاني من ابن عم أول أو ثانٍ، وفقًا لأحدث بيانات “مولود في برادفورد، المنشورة قبل عامين.
الآثار المركبة
بالنسبة لأولئك الذين يريدون حظر هذا الزواج، فإن حجة الصحة العامة مقنعة. عند الإعلان عن مشروع القانون في ديسمبر/كانون الأول، سلط ريتشارد هولدن الضوء على ارتفاع خطر العيوب الخلقية. وفي وقت لاحق، أشار في برنامجه على قناة Talk TV إلى بيانات تظهر أن معدلات وفيات الرضع أعلى بين الأطفال المولودين لأبوين من أبناء العم، مع وجود أمراض مثل مشاكل القلب والدماغ والكلى بسبب الاضطرابات المتنحية. كما أوضح أن التأثيرات الصحية يمكن أن “تتضاعف” عندما تستمر الممارسة عبر الأجيال.
هذا الخطر على صحة الطفل هو أحد الأسباب التي جعلت باتريك ناش، الباحث والمؤسس المشارك في معهد أبحاث مؤسسة فاروس، يريد حظر زواج أبناء العم. وفي ورقة بحثية نُشرت في مجلة أكسفورد للقانون والدين العام الماضي، كتب ناش أن الحظر من شأنه أن يؤدي إلى تحسينات صحية “فورية”، وخاصة في المجتمعات التي ينتشر فيها زواج أبناء العم. وقال: “إن حظر زواج أبناء العم من شأنه أن يحسن الصحة العامة بشكل كبير ولن يكون له آثار صحية سلبية في حد ذاته”.
أما على أرض الواقع في برادفورد، فإن الصورة أكثر التباساً. عمل البروفيسور سام أودي، استشاري طب حديثي الولادة والباحث في مستشفيات برادفورد التعليمية، في المدينة لأكثر من 20 عاماً. وعلى مر السنين لاحظ الكثير من الاضطرابات الوراثية الشديدة. “رأيت حالات جلدية مميتة، وحالات دماغية مميتة، وحالات عضلية مميتة”. ويقول إنه كان من الواضح على الفور أن هذه الحالات تحدث بشكل أكبر في برادفورد مقارنة بأماكن أخرى.
ويتذكر بعض الأمثلة المأساوية: أسر فقدت العديد من الأطفال، واحدا تلو الآخر، بسبب نفس الاضطراب الوراثي. “هذا أمر محزن للغاية ويصعب على الأسرة استيعابه”.
الأسلاف المشتركين
ولكن الأهم من ذلك، أن البروفيسور أودي يعتقد أن الخطر الرئيسي على الصحة الوراثية في برادفورد ليس زواج الأقارب، بل قضية مماثلة تعرف باسم الزواج من المجتمع المقرب، حيث يتزوج الناس من أفراد مجتمعهم القريب. وفي مجموعة عرقية متماسكة، يكون الناس أكثر عرضة لمشاركة جينات مشتركة – سواء كانوا أبناء عمومة من الدرجة الأولى أم لا.
يقول البروفيسور أودي: ” إنه من التبسيط المفرط القول بأن زواج الأقارب هو جذر جميع الاضطرابات المتنحية المفرطة في برادفورد أو في الجاليات الباكستانية”.
قوة التعليم
بدلاً من الحظر، يؤكد البروفيسور أودي على قوة التعليم ـ أو ما يسميه “محو الأمية الوراثية”. وهي عبارة تتردد مراراً على لسان الأشخاص الذين نتحدث إليهم. فعلى مدى سنوات عديدة، كانت هناك حملة في برادفورد لتوعية الناس من الجالية الباكستانية بالمخاطر الجينية التي يتعرضون لها. ويتلقى الأزواج المشورة المتخصصة من طبيبهم العام؛ وفي فترات الحمل، يتم تزويد المعلومات الضرورية للأمهات الحوامل.
وفي الواقع، في برادفورد على الأقل، بدأ زواج الأقارب بالانخفاض، فمثلاً انخفضت نسبة الأمهات الجدد في دراسة “مولود في برادفورد” اللاتي كن أبناء عمومة من الدرجة الأولى مع أزواجهن، من 39 في المئة في أواخر العقد الأخير من القرن العشرين إلى 27 في المئة في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
البروفيسور جون رايت، كبير الباحثين في مشروع “مولود في برادفورد” يقول: “عندما تحدثنا إلى الأسر قبل 10 سنوات، كان من الواضح جداً أن الناس لم يكونوا على دراية بالمخاطر ولكنهم بالطبع مثل جميع الأهالي يريدون بذل قصارى جهدهم من أجل أطفالهم، و يريدون إنجاب أطفال أصحاء”.