عيد الحب: هل مات الحب في عصرنا حقاً؟

يبدو الحبّ في زمننا متاحاً أكثر من أي وقت مضى: مع انتشار تطبيقات المواعدة ووسائل التواصل الاجتماعي وتزايد الحريات العامة. مع ذلك، هناك شعورٌ عام حول العالم، بأن الحبّ يصبح أبعد عنا يوماً بعد يوم.

إذ أصبح السأم والملل يتسللان سريعاً إلى المرتبطين، فيما يتساءل العازبون لماذا يصعب إيجاد الحبّ رغم فائض الإمكانيات التي يوفّرها زمن التواصل المفرط الذي نعيش فيه.

في السنوات الأخيرة، ازداد الحديث في أوساط المهتمين بعلم الاجتماع عن “نهاية الحبّ”، والمقصود هو نهاية الحبّ بمفهومه الرومانطيقي الذي ورثناه من القرن التاسع عشر عبر الأدب والفن، والذي لا يزال يشكّل تصوّر غالبيتنا عن الحبّ.

فما هي أسباب هذا الشعور العام الذي يصفه البعض بـ”الجائحة العاطفية”، وهل فعلاً نحن نعيش عصر نهاية الحب؟

هذه النزعة المتنامية لدى الأشخاص من ذوي الميول الغيرية، أصبح لها اسماً في السنوات القليلة الماضية وهو: التشاؤم من العلاقات الغيرية (Heteropessimism).

تقول سيريزن إن هذا التشاؤم لا يتجاوز في الغالب كونه نمطاً أدائياً، أي أن المنتقدين لا يتخلّون عن ميولهم الغيرية هذه، لكنهم يتذمرون من وجودها فقط.

ويشير هذا المصطلح إلى الطريقة التي يتحدث بها الرجال والنساء من ذوي الميول الغيرية غالباً عن علاقاتهم بوصفها مصدراً للمعاناة وعدم التوافق أو خيبة الأمل.

فقد تشعر النساء بخيبة أمل بسبب عدم توافر الرجال عاطفياً، أو شعورهم بالأحقيّة، بينما قد يشعر الرجال بأنهم مثقلون بالتوقعات التقليدية للرجولة.

من جهتها، تقول عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز، إن النساء ينشأن اجتماعياً على مبدأي العناية والرعاية، لذلك هنّ يتعلّقن عاطفياً أكثر من الرجال الذي يميلون أكثر إلى الانفصال والاستقلالية.

وتشرح قائلة: “ينفصل الرجال لأنّ العقلانية صُوّرت تاريخياً على أنها سمة ذكورية. لم تكن كذلك في الأصل، لكنها أصبحت كذلك في القرن التاسع عشر، حين تم تهميش النساء وتصنيفهن كمخلوقات هستيرية، وهو تصنيف رسّخه سيغموند فرويد”.

وفي السياق نفسه، يمكن القول إن زيادة الوعي النسوي عند النساء وتوجههن المتزايد إلى الاستقلالية وحماية حقوقهن وحرياتهنّ، ألقى بظلاله على العلاقة الغيرية بين النساء والرجال حتى ضعُفت إلى مستويات غير مسبوقة.

ويشير مصطلح “المانوسفير” إلى تنامي مجموعة غير منظّمة من المجتمعات الإلكترونية، والمدونات، والمنتديات، والمؤثرين الذين يركّزون على قضايا الرجال، وغالباً ما يروّجون لوجهات نظر مناهضة للنسوية، أو ذكورية متحيّزة ضد النساء، أو رجعية بشأن الجندر والمجتمع.

بين هذه الجماعات نجد “الإنسيلز” (العُزّاب غير الطوعيين)، وهي مجموعة هامشية تعبّر عن استيائها من النساء والمجتمع بسبب فشلها في تحقيق نجاح عاطفي أو جنسي، وقد تبنّت في السنوات الماضية هجمات عنيفة استهدف النساء و”الرجال الناجحين جنسياً”.

هذا الواقع زاد من عزلة النساء وفاقم نزعة التشاؤم من الغيرية.

وفي الوقت نفسه، أدى تغيّر معايير العلاقات، وارتفاع معدلات الطلاق، وتراجع معدلات الزواج، إلى دفع الكثيرين إلى التعامل مع الالتزام الغيري بشكّ، خوفاً من فشلٍ، يبدو لهم أنه حتميّ.

واحدة من أوائل النظريات حول “نهاية الحب” ولو أنها لم تستخدم التعبير نفسه، هي أطروحة عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان عن “الحب السائل” (2003) .

كامتداد لأطروحته عن “الحداثة السائلة”، كرّر باومان استخدام استعارة السيولة للحديث عن “ما لا يمكنه الاحتفاظ بالشكل نفسه لمدة طويلة. على عكس المواد الصلبة حيث ترتبط الجزيئات ببعضها بقوة كبيرة”.

في المجتمعات التقليدية، كانت العلاقات العاطفية تقوم على روابط قوية ودائمة، مدعومة بمؤسسات اجتماعية صلبة كالأسرة والدين والعادات.

أما اليوم، فقد باتت هذه الروابط أكثر مرونة، لكنها أيضاً أكثر هشاشة، حيث أصبح الحب أشبه بسلعة استهلاكية تُستبدل عند أول علامة على عدم الرضا.

يرى باومان أنّ الأفراد في المجتمع الحديث يتأرجحون بين رغبتين متناقضتين: الحاجة إلى الارتباط العاطفي والأمان، والخوف من الالتزام وفقدان الحرية الشخصية.

وكأن الحضارة تقوم على مبدأ المقايضة: تتخلّى عن شيء مقابل الحصول على شيء آخر.

الحب السائل، بحسب باومان، هو “حب بلا جذور، بلا التزام حقيقي، وهو انعكاس لتحولات أعمق في بنية المجتمع الحديث، حيث لم يعد هناك مكان للروابط الدائمة، بل أصبحت كلّ العلاقات، بما فيها الحب، مجرد تجارب مؤقتة ضمن عالم سريع الزوال”.

ويقول باومان إن “ما بعد الحداثة” أو “الحداثة السائلة”، هي “الحداثة، ناقص الوهم”.

وهذا الوهم، هو الاعتقاد بإمكانية وجود حالة نهائية للتاريخ، ثابتة، لا يبقى عندها شيء آخر للقيام به سوى الاستمرار والتكرار.

ولعلّ زوال هذا الوهم في المجتمعات المعاصرة، أدى أيضاً إلى النظر إلى الحبّ “الصلب”، بتوجّس، كوهمٍ آخر يقيّد الأفراد ويضع حدوداً أمام احتمالات وإمكانيات يريدونها لا نهائية.

الوفرة و”نزع السحر” عن الحب

ترى عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز، أن الندرة والممنوع كانا دائماً عنصرين أساسيين في تشكيل الرغبة، لكن في عصرنا الحالي عصر “مجتمع الوفرة”، حيث يبدو أن كل شيء متاح بأعدادٍ كبيرة، تشهد التجربة العاطفية نوعاً من الانكماش والتراجع.

في كتابها “نهاية الحبّ: سوسيولوجيا العلاقات السلبية”، تقول إيلوز إن الحديث عن “نهاية الحب” هو في جوهره حديث حول “نزع السحر عن الحبّ”.

فالحبّ الرومانطيقي كما يتصوّره الغرب، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الحب الإلهي، لا سيما كما عُبّر عنه في المسيحية.

إنه حبٌّ مطلق، وفريد، ومقدس، وكثيف.

نزع السحر والعقلانية يعنيان، على سبيل المثال، “عدم القدرة على رؤية هذه الشجرة ككائن إلهي بخصائص فوق طبيعية بإمكانه أن يحميني، بل أراها كموضوع للدراسة العلمية أو كمادة أولية لصناعة الورق فقط”.

وهذا بالضبط ما حدث مع الحب حيث أنه مع الوقت “فقدت نظرتنا إليه البراءة”، في رأيها.

منذ بداية القرن العشرين، وبخاصةٍ مع ظهور التحليل النفسي، أصبح الحب تدريجياً موضوعاً للدراسة العلمية، سواء من خلال التحليل النفسي أو علم الأحياء أو علم النفس التطوري.

اليوم، يمكن للمراهقين أن يقولوا ببساطة إن “الحبّ ليس إلا تفاعلاً هرمونياً لا أكثر”.

هذا ما يجعل تحويل الحب إلى موضوع للمعرفة والتسويق، هو ما يساهم في نزع السحر عنه.

“نهاية الحبّ تعني نهاية الإيمان به، وعندما أقول إيمان، أستخدم هذا المصطلح عن قصد، لأن الحب، في نظري، كان دائماً يشبه إلى حد بعيد إيماناً دينياً”، تقول إيلوز.

 

المصدر: BBC