غاز الهيليوم: كيف تستعد الدول لمواجهة نقص هذا العنصر؟

تعتمد حياتنا بشكل مذهل على غاز خفيف وخامل، رغم هشاشة إمداداته، ألا وهو غاز الهيليوم.

شعرت نانسي واشنطن بالإحباط عندما علمت بعدم وصول شحنة الهيليوم. تلقّت وفريقها من الكيميائيين في مختبر شمال غرب المحيط الهادئ الوطني بالولايات المتحدة إشعاراً مفاجئاً من موردهم يفيد بعدم توافر شحنتهم المعتادة من الغاز، الضروري لإجراء العديد من التجارب.

أدى النقص إلى تقليص إمدادات الهيليوم، واضطر المختبر ببساطة إلى الاكتفاء بكمية أقل، ففي الأسابيع الأولى من ذلك العام، تراجعت الإمدادات إلى ما دون 2500 لتر (660 جالوناً) التي كان يستقبلها عادةً، وبحلول أبريل/ نيسان، أي بعد شهرين فقط، لم يكن المختبر يحصل إلا على أقل من نصف احتياجاته من الهيليوم.

نظراً لامتلاك المختبر عدداً محدوداً من الأجهزة التي تحتاج إلى إعادة تعبئة منتظمة بالهيليوم السائل، لم يكن أمامه خيار سوى إعطاء الأولوية للأجهزة الأكثر أهمية، ومن بينها كان مطياف الرنين المغناطيسي النووي المفضل لدى نانسي، وهو برج ضخم قادر على تحليل البنية الجزيئية للذرات، وتساعد قياساته في تطوير تقنيات مثل البطاريات وأنظمة تخزين الطاقة.

لكن سرعان ما اضطر كل هذا العمل إلى التوقف فجأة.

يتم تسليط الضوء على مدى ضعف إمدادات الهيليوم، وأسباب السعي العالمي لإيجاد طرق للحفاظ على هذا الغاز الأساسي وإعادة تدويره.

على سبيل المثال، تُعدّ المستشفيات أكبر مستهلك للهيليوم عالمياً، إذ تمثل نحو 32% من السوق، يُستخدم هذا الغاز في تبريد المغناطيسات داخل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI).

كما يُستخدم الهيليوم في تصنيع أشباه الموصلات (رقائق الحاسوب)، التي تُعدّ أساس الأجهزة الإلكترونية. كما يستخدم في اللحام، بل وحتى في ضغط خزانات وقود الصواريخ التي تُطلق الأقمار الصناعية إلى المدار. إضافةً إلى ذلك، يُعدّ الهيليوم جزءاً من خليط الغازات المُستخدم في نفخ الوسائد الهوائية للسلامة في السيارات.

الهيليوم غاز عديم الرائحة وخفيف للغاية، وعلى عكس عنصر آخر خفيف جداً كان يُستخدم سابقاً في المناطيد، وهو الهيدروجين، فإنه لا يشتعل أبداً. عند تبريده، يتحول إلى سائل فقط عند درجة حرارة شديدة الانخفاض، تبلغ حوالي 4.2 كلفن (-269 درجة مئوية/-452 فهرنهايت).

تقول صوفيا هايز، أستاذة الكيمياء بجامعة واشنطن في سانت لويس: “الهيليوم عنصرٌ سحري، لا مثيل له في الكون”.يكتسب الهيليوم السائل خصائص فريدة عند تبريده إلى ما يقارب الصفر المطلق، حيث يتحول إلى سائل فائق يتميز بانعدام الاحتكاك. إذا حُرِّك كوب يحتوي على هذا السائل، فسيستمر في الدوران داخله نظرياً إلى الأبد. يُعد الهيليوم فائق السيولة ضرورياً للموصلات الفائقة واسعة النطاق، مثل تلك المستخدمة في مصادم الهدرونات الكبير في سيرن، الواقع على الحدود بين سويسرا وفرنسا.

منذ عام 2006، تواجه الكميات المعروضة من الهيليوم نقصاً متكرراً، بدأت مؤشرات النقص تظهر في يناير/ كانون الثاني 2022، ثم عادت للتحسن في العام التالي، إلا أن إمدادات الهيليوم ظلت محدودة، حيث يكافح المنتجون لمواكبة الطلب المتزايد.

من المتوقع أن يزداد الطلب على الهيليوم بشكل كبير، إذ يقدّر بعض المحللين أنه قد يتضاعف بحلول عام 2035، وذلك نظراً لدوره الحيوي في تصنيع أشباه الموصلات وبطاريات المركبات الكهربائية، بالإضافة إلى استخداماته في مجالات الطيران والفضاء.

هناك مصدران فقط للهيليوم: تفاعلات الاندماج النووي عالية الطاقة داخل النجوم، بما فيها الشمس، والتحلل التدريجي للعناصر المشعة في قشرة الأرض.

يعتبر الهيليوم عنصراً يصعب احتواؤه بشكل ملحوظ، فقد أسهم استخراج وحرق الوقود الأحفوري في زيادة تراكمه في الغلاف الجوي للأرض خلال العقود الأخيرة، ما أدى إلى استنزاف احتياطياته التي كانت محفوظة داخل الكوكب.

لكن بسبب خفته الشديدة، يتسرب الهيليوم تدريجياً من الغلاف الجوي متجهاً إلى الفضاء. وعندما يكون في حالته فائقة السيولة، يمكنه النفاذ عبر أضيق الشقوق والثقوب، بل وحتى التدفق صعوداً على الجدران، هذه الخصائص تجعل التعامل معه وتخزينه تحدياً كبيراً، إذ يمكن أن يضيع بسهولة بعد الاستخدام.

أبرز هذه الأزمات عندما أدى النقص الحاد في عام 2022 بالهيليوم إلى إفساد بعض أبحاث واشنطن، وذلك حدث بعد سلسلة من الحرائق في مصنع روسي كبير لمعالجة الغاز في منطقة أمور في سيبيريا.

وفاقمت الحرب في أوكرانيا المشكلة، من خلال زيادة أزمة الإمدادات، حدث ذلك بالتزامن مع توقف مصنع الهيليوم في قطر عن العمل للصيانة المخطط لها، وفي الوقت نفسه، تم إغلاق وحدة تخصيب الهيليوم الخام في الاحتياطي الوطني الأمريكي للهيليوم خلال صيف عام 2021، ومرة ​​أخرى لمدة أربعة أشهر في نهاية يناير 2022.

وبحلول عام 2023، تضاعف سعر البيع الصناعي للهيليوم تقريباً عما كان عليه قبل خمس سنوات، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق.

على الرغم من زيادة إنتاج الهيليوم منذ ذلك الحين، لا يزال العالم يواجه اضطرابات محتملة تؤدي إلى تقلبات في أسعار السوق.

ففي سبتمبر 2024، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، شملت حظر استيراد الهيليوم.

ورغم أن روسيا لا تمثل سوى 1% من واردات الاتحاد الأوروبي من الهيليوم، إلا أن هذه الخطوة زادت من الضغوط على الإمدادات، بالإضافة إلى ذلك، أسهم بيع أكبر احتياطي عالمي من الهيليوم – الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي – في زيادة حالة عدم الاستقرار في السوق.

كانت الولايات المتحدة مسؤولة لعدة عقود، عن توفير نحو عُشر إمدادات الهيليوم العالمية، وذلك من مخزون اتحادي تحت الأرض أُنشئ قبل قرن بالقرب من أماريلو، تكساس، ولكن في يونيو/ حزيران 2024، باع مكتب إدارة الأراضي، المسؤول عن إدارة احتياطي الهيليوم الأمريكي، آخر كميات الهيليوم الفيدرالي لشركة ميسر الألمانية لتوريد الغاز.

حثت هيئات تجارية، بما في ذلك رابطة الغاز المضغوط وجمعية التكنولوجيا الطبية المتقدمة (أدفا ميد)، الحكومة الأمريكية على تأجيل عملية البيع بحجة أنها قد تؤدي إلى “أزمة في سلسلة التوريد”.

كما أشارت شركة “بريمير” للرعاية الصحية، التي تقوم بتوريد الهيليوم لصالح آلاف المستشفيات، إلى أن عملية البيع قد يكون لها تأثير سلبي على رعاية المرضى.

ورغم أن هذه المخاوف لم تتحقق حتى الآن، إلا أن هناك مؤشرات تدل على أن الأمور لا تسير جيداً.

وفي وقت لاحق، تم وضع الشركة التي تدير وحدة التخصيب تحت الحراسة القضائية، مع ذلك، أكدت شركة (ميسر) أن نظام الهيليوم لديها “يعمل بكفاءة ودون انقطاع منذ الاستحواذ عليه في يونيو/حزيران السابق، مع توقع أن تستمر العمليات بسلاسة ودون مشاكل في المستقبل”.

لكن تحليلاً حديثاً لإمدادات الهيليوم يشير إلى أن هذا المورد الطبيعي من المرجح أن يكتسب أهمية جيوسياسية متزايدة خلال السنوات القادمة مع تزايد الطلب عليه وتزايد المنافسة عليه.

تستحوذ الولايات المتحدة على حوالي 46% من المعروض العالمي من الهيليوم، تليها قطر (38%)، ثم الجزائر (5%)، و في حال انقطاع الإمدادات الأمريكية مجدداً، فسيكون التأثير ملموساً في جميع أنحاء العالم.

مع ذلك، دفعت سنوات من شح إمدادات الهيليوم وتقلبات أسعاره الهيئات الأكاديمية والتجارية والطبية إلى استكشاف أساليب أكثر استدامة لاستهلاك الهيليوم، تستهدف هذه الجهود أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي،التي تُعد من أكبر مستهلكي الهيليوم.

يتطلب جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي التقليدي ما يقارب 2000 لتر من الهيليوم السائل لتبريد المغناطيسيات التي يحتاجها الجهاز.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments